ربما شكّل اتهام الأقليات، بأنهم يُمثّلون سنداً اجتماعياً للديكتاتورية العربية وبخاصة في المشرق العربي، أو اتهام «علمانييهم» بأنهم سندٌ أيديولوجي للأنظمة السياسية التي تدّعي العلمانيّة، عقاباً جماعياً جديداً، ضمن سلسلة العقوبات التاريخية، التي لم تَسْلمْ منها الأقليات، بخاصة الإثنية والطائفية. بالنظر إلى أنّ مفهومي «الأقلية» و «الأكثرية» ليسا مُحنّطين بالكمّ، بخاصة في مجتمعات غير سياسية وغير ديموقراطية، يؤخذ على العلمانيّة والحداثة مساهمتهما في «التقليل» من «الغالبية الثقافية» لتغدو أقليّةً. فالعلمانية حينما تقول بفصل السلطتين، الدينية والدنيوية، تَسْحبُ البساطَ من تحت أرجل هيمنة «الغالبية الجمعية». في مقابل هذا، إنهما - أي العلمانية والحداثة - تُساهمان في «التكثير» من «الأقليات الثقافية» في حال حُكْمِها، وذلك على حساب «ثقافة المجموع». هذه إحدى النوافذ التي تُهاجم فيها العلمانية، من خلال أشكلتها «قسرياً» مع الأقليات. ومن أخطر ما يستبطن التهجّم على العلمانية كمشروع سياسي، ما تحدّث عنه مفكرون حول عدم إمكانية فصل البعض، الجدل الذي افتتحه فرح أنطون ضد محمد عبده، وفي دفاعه المستميت عن الليبرالية والعلمانية، عن اضطراب وضع الأقليات الدينية في المشرق حينها؛ بحيث يغدو الجدلُ الآن حول العلمانية، جدلاً بين «ثقافة المجموع» (= السُنّة) الرافضة مبدأ العلمانية، لأنه ينزع عنها صفةَ «أكثريتها»، وبين «أقليات دينية» تدافع عنه، كضامن لوجودها الثقافي والاجتماعي وحقها السياسي في الاختيار. وهذه الإشكالية إنْ صحت الآن في سياقنا المعاصر، فإنما تبرهن مرة أخرى على استاتيكية الوعي الثقافي ومنطقه، فضلاً عن معاودة طرح الأسئلة ذاتها التي واجهت نهضويي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين. في الواقع، بإمكاننا اليوم قراءة معانٍ مستبطنة، تحوم وراء خطاب بعض «السُّنيين» (ولكن اليساريين!)، حينما يهاجمون علمانية مثقفين من أقليات أخرى؛ لكن هؤلاء يدافعون عن علمانيتهم، ليس لأنهم علمانيون، بل كونهم أقليات، ينظرون للعلمانية، كخلاص وجودي، كضامن لحقوقهم السياسية والثقافية. بعضُ الأقليات الإسلامية في الغرب، يمارس أيضاً هذا النوع من الخطابات في مطالبته بالعلمانية لحفظ حقوقه هناك، الى درجة اعتبارها تكنولوجيا أخرى، تضاف إلى التكنولوجيا المُصدَّرة. هكذا يغدو خطاب العلمانية ما بين الأقليات والأكثرية، خطاباً مشوشاً، لا يخضع نقاشُه لإبستيماته المعرفية والنقدية وشروطه الحداثية، بمقدار ما يخضع لشروط مجتمعات وأيديولوجيات غير مؤسسة بالأصل سياسياً. وربما تعود إشكالية استيعاب هذا المفهوم بنحو معكوس، إلى عصر النهضة، أثناء صدمة العرب والمسلمين الأولى مع الحداثة الأوروبية؛ حيث وجد المسلمون أنفسهم حينها «أقلية حضارية» أمام هيمنة أسئلة الحداثة، والتي وجدها المصلحون في ذلك الوقت صعبة عليهم؛ فلجأوا غالباً إلى أسلوبين: الأول، إما إلى التلفيق والتوفيق بين أسئلة الغرب الحداثية الصعبة، وبين أجوبتنا الحاضرة دوماً في التاريخ السحيق؛ أو اللجوء إلى الأسلوب الثاني، في مهاجمة العلمانية والحداثة كمشاريع «كُفْرية» (الخطاب الديني)، أو تغريبية إمبريالية (بعض من الخطابات الأيديولوجية والقومية). وهكذا، تمّ الربط عنوةً بين الأقليات، بخاصة المسيحية، وبين العلمانية ومشاريع الغرب الإمبريالية. لهذا، ليس غريباً أن يلجأ بعض الخطابات القومية والدينية المُسيّسة (وهم أشقاء في «الحامل الذهني»)، وحتى الآن، وهم يهاجمون العلمانية وأُمَّها الحداثة، الى دعوة الأقليات للانضواء تحت مظلة «فضاءين»: الأول، «جَمْع قومي»؛ بينما الثاني، «جَمْع إسلامي ثقافي»، وهو ما سيعني تالياً، إنتاج هيمنة من نوع آخر: - الأقليات الإثنية والعرقية، في دعواتها للانضواء تحت مظلة «الفضاء العروبي القومي»، بحكم سيطرة «الكمّ» العربية؛ فتُعرّف هذه الأقليات ثقافياً ب «ثقافة الجموع» أو المجموع العربي الذي يسود الأقليات «عددياً». وربما تعود هذه الدعوة بنحو جوهري، إلى «انهزامية» الحاضر التاريخي، فتُعوّض هذه الانهزامية بالنرجسية والتي تتبدى كأحد أهمّ أسباب الإلحاح المبطن عند بعضهم لسيطرة ميراث الذهنية الجمْعية العربية وهيمنته؛ هذا الميراث الثقافي الذي يجب أن تسود ثقافته، وتُعرّف طبقاً لبراديغمه، هويةُ ثقافة الآخر (الأقليات)، بهوية ثقافة الذات (الجُموع). - أما الفضاء الثاني في دعوة الأقليات، بخاصة الدينية، للانضواء تحت مظلته، فهو «الفضاء الإسلامي الثقافي» (تحديداً السُّني)؛ ما يعني أيضاً، أن هذه الأقليات لا تُعرّف بخصوصياتها الدينية، بمقدار ما تُعرّف ب «ثقافة الغالبية». ولا يشفع اعتراف الأخيرة بحقوق الأقليات الدينية، اعترافاً سياسياً وثقافياً بها؛ فهذا لا يتعدّى كونه «اعترافاً حقوقياً» لا أكثر. إنّ مجرد الاعتراف بالمسيحيين، مثلاً، بأنهم «مسيحيون عقيدياً وشعائرياً» إلا أنهم «مسلمون ثقافياً»، فهذا ليس اعترافاً بهم، بمقدار ما هو تهميش لذاتهم الثقافية والدينية. لكن حينما يُطالِب هؤلاء بالعلمانية ك «ضامن وطني» يجمع كل أبناء الدولة، تبدأ صيغ الاتهامات بالتغريب والتخوين وما إليه. وهذه الدعوة للأقليات لاعتبار أنفسهم «مسلمين ثقافياً»، هي بحدّ ذاتها إعادة إنتاج (لكن بنحو «مُحدّث») للخطاب التراثي عن أحوال «أهل الذمة» في ظل الخلافة الإسلامية. فالخطاب الديني يكرر القول بنحو اعتذاري، أنّ الأقليات الدينية، عاشت قديماً، ومارست شعائرها وأخذت حقوقها...إلخ. لكنّ قائلي هذه الجُمَل لا يوضحون إلا نصف الصورة (فضلاً عن التكتم عن أشياء أخرى)، بأنّ «النص السُّلطاني» لا يَسْمَح أن يُحكَمَ مُسلمٌ بواسطة مسيحي أو «كتابي» (أهل الكتاب). وهذا هو سرّ الإشكال عند خطاب الإخوان المسلمين، في عدم اعترافهم إلى الآن بنحو رسمي و «شرعيّ» بجواز حكم الأقباط. لهذا، إعادة إنتاج جملة أنّ المسيحيين مسلمون ثقافياً في ظل «الغالبية» (عند الخطاب الأيديولوجي)، لا يفترق منطق إنتاجها، عن جُمل وقواعد حقوق أهل الذمة في ظل حكم الغالبية، أي الخلافة الإسلامية (عند الخطاب الديني). ربما يعود عدم الافتراق هذا، إلى أنّ الذهنية المنتجة هي واحدة، سواء عند الخطاب الأيديولوجي القومي أو عند الخطاب الديني. مشكلةُ الأقليات وتطييف الطوائف في مجتمعاتنا، غير السياسية، ليست طارئة؛ فهذا كان من مهنة الأنظمة الديكتاتورية والذهنيات القومية الفاشية، والتي ما زالت متغلغلة في عمق بعض الخطابات الثقافية، فتحاول من خلال إدانةِ الأقليات، إدانةَ الحداثة، بعد الترويج للمزاوجة القسرية بين الأقليات والعلمانية. وهذا الأسلوب في فهم الحداثة والعلمانية، فضلاً عن عدم درس الظاهرة الدينية، وابنتِها الطائفية، في ضوء «مصلحة» الاجتماع السياسي العربي الحديث، يُشكّل أحد العوائق الرئيسة أمام «الربيع العربي». فبالتأكيد، لم تخرج الشعوب العربية من أجل أن تنتقل من ديكتاتوريات إلى ديكتاتوريات ثانية، ولو بأشكال أخرى.