الحياة سعودي لا يوجد أمر أُشبع تحليلاً ونقداً وتمحيصا ومطالبةً ورفضاً وشجباً وإصراراً، أكثر من قيادة المرأة السيارة في المملكة. وعلى حد معلوماتي فإن أول من تحدث عن قيادة المرأة وطالب بها، هو الأمين العام لمجلس الشورى سابقاً الدكتور حمود البدر، قبل أن يعمل في المجلس بوقت طويل. كان رد فعل المجتمع قوياً آنذاك، وهو شيء طبيعي في ظل أن الأمر جديد، مثله مثل أمور أخرى كثيرة لم تُحسَم في المملكة من دون تدخل السياسي. مات بعدها الموضوع سنوات طويلة، قبل أن تقرر 47 امرأة سعودية أن يخرجن لقيادة السيارات (6 نوفمبر 1990) في خطوة رمزية، في وقت كانت تمر به دول الخليج في أكبر أزمة عصفت بوجودها وتاريخها عندما غزا الجيش العراقي الكويت واحتلها، وتقدم إلى مشارف الحدود مع السعودية. كان مشهداً لا يُنسى، عندما توقفت 14 سيارة بجانب أسواق التميمي في شارع الملك عبدالعزيز الرئيسي في مدينة الرياض، وغادر السائقون سيارات كفلائهم بذهول ودهشة، وهم يرون زوجات الكفلاء ينتزعون منهم المفاتيح، وينتقلون إلى مقاعد السائقين بكل ثقة وإصرار. النساء كنَّ خليطاً من أعضاء تدريس في الجامعات السعودية أو معلمات أو سيدات أعمال أو حتى طالبات تراوحت أعمارهم بين 19 و45، فضلاً عن أنهن كنَّ من مناطق مختلفة في المملكة، وبعضهن غير متزوجات. أي كان الأمر برمته رغبة جماعية؛ للمطالبة بحق بسيط، لا يستحق مثل رد الفعل المتشنج، ولاسيما من المتشددين من رجال الدين وهيئة الأمر بالمعروف. وبعد اعتراض موكب السيارات من رجال الشرطة وموظفي الهيئة لسببين مختلفين، فالشرطة تساءلوا عن رخص القيادة التي أبرزنها القائدات بحكم حصولهن عليها من مقر دراستهم في أميركا وأوروبا، بينما استهجان الهيئة كان بدعوى أن القيادة حرام وفتنة، على رغم أنهم لم يكونوا ينبسون ببنت شفه عندما كانت النساء يتوجهن كل يوم برفقة سائق أجنبي وحدهن، فأيهما أكثر فتنةً، وأيهما الحرام يا ترى؟ بعد التفاهم مع الإمارة اتجه الجميع لمركز الشرطة، إذ قضت السيدات هناك ساعات عدة قبل أن يُصدر الشيخ المرحوم عبدالعزيز بن باز فتواه الخاصة بمنع القيادة؛ خوفاً من الفتنة، إلا أنه لم يحرمها، فهي -كما يعرف الجميع- ليست أمراً يخل بدين أو شرف، كما أن ملايين المسلمات خارج المملكة يقدن سياراتهن من دون أدنى حرج. وفي عام 1998، وعلى إثر تصريح للخارجية السعودية، يفيد فيه بأن المانع لقيادة المرأة للسيارة هو أمور فنية فقط، هبت المجلات والصحف السعودية بطرح مواضيع ومقالات تطالب بهذا الحق، غير أن الفئة المضادة -وكالعادة- قاتلت؛ لكي تمنع أن يُصدر السياسي قراراً بالسماح. غير أنه أثير في مجلس الشورى السعودي عام 2005، وذكر الدكتور حمود البدر في حوار له في صحيفة عكاظ أنه لم يطرح للحوار؛ لأنه لم يحصل على أكثر من نصف الأصوات، الذي كان شرطاً أساسياً في المجلس؛ لمناقشة أي موضوع. والمفارقة أن البدر في اللقاء كان أكثر تأييداً منه عندما كان في «الشورى»، ولعل اللبيب يفهم أنه ككثير من المسؤولين، لا يريدون إغضاب المتشددين حتى لو كانوا على خطأ. استمرت موضوع قيادة المرأة السيارة لعبة تتأرجح بين المؤيدين والمعارضين، لكن من المؤكد أنها شيئاً فشيئاً ستكسب مؤيدين أكثر، ولاسيما بعد أن كثرت حوادث السائقين الأمنية، فضلاً عن تكاليفهم التي لا يستطيع كل شخص تدبيرها. وفي عام 2013 شهد حدثين متزامنين بهذا الخصوص، أحدهما أن أعضاء مجلس الشورى هيا المنيع ولطيفة الشعلان ومنى آل مشيط تقدمن للمجلس بمقترح لقيادة المرأة السيارة، فيما خرجت للقيادة نساء عدة بسياراتهن، موثقات ذلك عبر «يوتيوب»، خلال تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه. إلا أن المجلس تنصل من التوصية بطريقة مارادونا اللاعب الشهير، أي «اللي لا تستطيع عمله بالقدم اعمله باليد» (هدف مارادونا لاعب الأرجنتين في منتخب إنكلترا بيده)، على رغم أنه مخالف للنظام، فهم اعتبروا أن المقترح مخالف للقواعد المسيِّرة لعمل المجلس، وذكر أن الموضوع حساس، ويحتاج إلى معلومات موثقة، فضلاً عن ضغوطات على الأعضاء لسحب التوصية، فرفضن بشجاعة أسماء بنت أبي بكر الصديق. وتقدمت العضوتان المنيع والشعلان مرة أخرى بعدها بشهور، إلا أن الموضوع أُجْهِض مرة أخرى. لربما العنوان يغني عن الشرح، إنما هو سؤال لا أظنه محيراً أبداً، وهو: كيف تستطيع عضو الشورى أن تقدم توصيات تهدف إلى كل ما يساعد على مستقبل الوطن ونموه وهموم مواطنيه وآمالهم وتطلعاتهم؟ وبعضها له أبعاد كبيرة وعميقة، بينما لا تستطيع هذه السيدة أن تقود سيارة وحدها وكأنما خلوتها مع الشيطان. قبل أمس، مرت 24 عاماً على موكب «سيدات نوفمبر»، اللاتي حققن كل طموحاتهن في مجالات العمل والدراسة، ومعظمهن أصبح لهن أحفاد، إلا أن غصة القيادة أبت أن تزول من قلوبهن. [email protected] abofares1@