التقرير الكندية من مشاهداتي اليومية في مدينتي الصناعية التي أقيم فيها منظر الكثير من العمال والموظفين الذين يغتنمون الوقت المخصص للراحة والغداء وهو من الساعة 12 ظهرًا ولمدة ساعة ،بحسب نظام ال((Break time، فترى العشرات من أولئك العمال والموظفين على أبواب المطاعم والمحال التجارية، ومن المعروف أن تلك الساعة تصادف صلاة الظهر في أغلب مدن المملكة، فيتألم من في قلبه ذرة إنسانية من منظر الكثيرين وقد اعتلت وجوههم ملامح الأسف والامتعاض حين يصلون إلى باب المطعم أو المتجر فيكون مقفلًا، في تلك الساعة الوحيدة المسموح لهم فيها بالخروج للغداء، وهكذا بشكل يوميّ. في هكذا مدينة، ما الذي يُدعو إلى الإصرار على إغلاق المتاجر وقت الآذان، ولمدة أربعين دقيقة؟ ولو سلّمنا جدلًا أن إغلاق المحلات ضرورة دينية، فلماذا الإصرار على مدة (عشرين دقيقة) بين الآذان والإقامة؟ والغريب أن كل مسجد في كل مدينة وقرية وهجرة يلتزم بهذا (القانون) في دولة مترامية كالقارة، في حين أن الكثير من الأحكام القضائية الأكثر خطورة فيما يتعلق بالأحداث الجنائية العامة غير خاضعة لذات التقنين الموحد، مما يثير الدهشة من طبيعة الأولويات التي تأخذها مسارات الوعي الديني محليًا. إن تقرير المدة بين الآذان والإقامة كانت عبارة عن فتوى للشيخ محمد بن إبراهيم، كما سيتضح لاحقًا، لكن السؤال الآن هو: هل هذه الفتوى نص مقدس بحيث لا يمكن تعديلها؟ ألا يمكن أن تكون خمس دقائق مثلًا؟ خصوصًا إذا عرفنا أن سبب تراخي الناس عن صلاة الجماعة هو تلك المدة الطويلة بين الآذان والإقامة، بينما لو كانت خمس دقائق مثلًا، فسوف يكون عند المصلين الاستعداد الكامل على أن يتواجدوا في المساجد مع الآذان أو بعده مباشرة، فما هي الحاجة لأن تتوقف شرايينُ الحياة عشرين دقيقة يُضاف إليها عشرون أخرى لأداء الصلاة وفتح المحلات؟ نحن اليوم نسير على فتاوى وآراء وضعها رجال دين عاشوا حياة لم تكن عملية، وتختلف اختلافًا جذريًا عن حياة اليوم، وينفذ هذه التعاليم اليوم ويتعهدها محتسبون ورجال دين لم يعرفوا عن معاناة الآلاف، ويعيشون نفس النمط من العيش والتصورات التي عاشها رجال الدين قبل عقود . العقل الديني المحلي يتصور أن الدنيا يمكنها أن تقف لعشرات الدقائق من أجل الصلاة. وفي رسالة بعثها الشيخ محمد بن إبراهيم إلى الملك سعود آنذاك، يقول فيها : (فتوى رقم 444 بشأن إيقاف السيارات أثناء فترة الصلاة) (من محمد بن إبراهيم إِلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم ... أَيده الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد أَصبحت البلاد بحالة سيئة من ناحية عدم المبالاة بأداء الصلاة جماعة في المساجد، وكان المؤذنون يؤذنون ويصلي الناس والأسواق مزدحمة بسير السيارات، فأصبح الأمر في حاجة ماسة إِلى سرعة علاج حاسم يضمن بإِذن الله اشتغال المسلمين حين وقت الصلاة بالصلاة في المساجد، وأَقرب علاج للموضوع هو أَن يوضع تعليمات لسير السيارات وللأَذان والإِقامة. أَما السيارات فتصدر الأَوامر المشددة على رجال المرور بتوقيف سيرها بعد الأَذان بعشر دقائق إِلى أَن تنقضي الصلاة. هذا في الظهر والعصر والعشاء. أَما المغرب فتوقف قبل غروب الشمس بخمس دقائق نظرًا لقرب الفترة التي بين الأَذان والإِقامة. وأَما الأَذان والإِقامة فيصدر تعليمات من الجهات المختصة بأَن يحدد الأَذان بعد دخول وقته بوقت واحد، ويقع دفعة واحدة، وتكون الإِقامة في الظهر والعصر والعشاء بعد الأَذان بثلث ساعة، أَما الفجر فلا حاجة فيه إِلى هذا التحديد. وأَما المغرب فإِن الأَذان لها مؤقت بغروب الشمس، والإِقامة بعده بعشر دقائق، وإِيقاف سير السيارات يكون قبل الغروب بخمس دقائق. هذه تعليمات يجب اتباعها طاعة لله ورسوله حيث أَمر بأَداء الصلوات في أَوقاتها. فنرجو الأَمر بتطبيقها واعتمادها. تولاكم الله بتوفيقه). (المصدر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم، ج 2 ص 132 – 133). هكذا كان يُقرر شكل الحياة، ولست أدري هل كان يعي العقل الديني آنذاك أن بإيقاف كل أشكال الحياة المدنية وتعطيل مصالح الناس في أوقات الصلوات، وبالقوة الجبرية، يمكن أن يجعل للصلاة جاذبية عند الفرد الذي يعيش في هذا البلد؟ وهل هذه هي فلسفة الصلاة وهي المعروفة أنها علاقة روحانية بين الفرد وخالقه؟ مشكلة العقل الديني المحلي أنه يعيش نمطًا من الحياة، وفي وسط اجتماعي بين طلبة العلم وأجواء المساجد وحلقات الدروس، ويعتقد أن كل إنسان بإمكانه أن يعيش ذات الطريقة النمطية التي لا تخضع للمصالح الخاصة والمسؤوليات والأشغال والالتزامات. ومن هنا تنطلق الكثير من الفتاوى التي تُفصّل على مقاييس تلك النمطية الخاصة من الحياة التي لا تعرف ما يدور خارج أسوار تلك البيئة . والمشكلة الأخرى.. هي أن هناك شيئًا من الرغبة الملحّة عند العقل الوهابي تحديدًا (الشريك الديني في الحكم) في الحرص على إظهار وإعلان المظاهر الدينية في الحياة العامة، ولو بالقوة الجبرية، كنوع من إثبات حضور الكينونة الدينية ضمن الشراكة التاريخية داخل الكيان السياسي، ويدلّل على هذا الأمر أن عناصر دوريات الأمر بالمعروف لا يخفى عليهم أن أكثر العاملين في المحلات التجارية يُغلقون على أنفسهم أبواب المحلات إلى حين انتهاء الصلاة، تقيّدًا بالقانون، ويعلمون تمام العلم أن الكثير من أصحاب المحلات لا يلتزمون بحضور صلاة الجماعة، وبالتالي فكأن الهدف المطلوب ليست الصلاة للفرد بحد ذاتها، بل إطلاق (التظاهرة) الدينية المتمثلة في إيقاف كل المناشط الاقتصادية بسبب دخول وقت الصلاة، وفي النهاية فسيعمل كل ذلك على تحقيق ما يوصف بأنه (إقامة لشعائر الدين)، وهذا الأمر في الأساس يُحقق الإشباع الوجداني عند المنظومة الدينية المحلّية في إظهار تلك الشعائر بأعلى درجة صوتية مرتفعة كنوع من التمسك بحق المحاصصة في تلك الشراكة في إدارة الدولة والمجتمع من الجانب الديني، لنتساءل بعد ذلك: هل شعائر الدين تلك تفترض تعطيل الحياة تمامًا خمس مرات يوميًا ولمدة تزيد عن أربعين دقيقة مع كل صلاة، وتشمل أيضًا محطات السفر الضرورية جدًا، والتي لا يفترض بها أساسًا أن تتوقف لا شرعًا ولا عقلًا ولا إنسانيًا؟ لكن فيما يبدو أن مقتضيات تلك الشراكة قد غطّت على المقاصد الفلسفية الكبرى التي جاءت بها السماحة الدينية في نسختها الأولى المفقودة. حين نقيّم اليوم مدى جاذبية التدين في نفوس الشباب، بل وحين نرى حالات التمرد الصارخة والإلحاد، فلا يمكن أبدًا وضع اللائمة إلا على نمطية التربية الدينية التي يتعرض لها النُّشء في هذا المجتمع حين يرى أن الدين يقف عائقًا فعليًا أمام الحياة بسبب فرض التصورات القيمية ضيقة النظر والإدراك، في حين أن حقائق الدين، وخصوصًا العبادات بالذات، يجب ألا تخضع لمنطق فرض القوة القانونية، حماية لها أولًا -على المدى الطويل- قبل أي شيء آخر .