التقرير في الخمسينيات، برزت نظرية اسمها "نظرية التوازن" تقول إنّ الإنسان يسعى دائمًا للتوازن المعرفي، بحيث تكون المعلومات التي لديه متوازنة ومتوافقة مع بعضها البعض، وإذا وقعَ تعارض بين هذه المعلومات فإنه يعاني من حالة من عدم التوازن، وبالتالي سيسعى لاستعادته. أسّس النظرية فرتز هايدر وكانت تركّز على مستوى العلاقات الشخصية، لكن ما لبثت الأبحاث تضيف وتتوسع من هذا المفهوم وبرزت أدبيات مهمة قادها علماء مثل ثيودور نيوكومب وليون فستنجر وتشارلز أوزغود. الفكرة البسيطة خلف هذه النظرية لها قدرة مميزة على إعطائنا زاوية جديدة لتفسير كيفية تشكّل الآراء، سواء كانت حول منتج ما أو حول شخصية شهيرة أو حول قضية رأي عام. ببساطة، تتراكم المعلومات في عقل الإنسان وتكون متّسقة مع بعضها البعض؛ ممّا يشكل توازنًا معرفيًّا مريحًا يتلاءم والأفكار التي يؤمن بها، لكن إذا برزت معلومة تناقض ما يعرف فإن اضطرابًا يحصل في هذا التوازن؛ مما يولد حالة من عدم الارتياح تدفعه لمحاولة استعادة التوازن. وبينما يسعى البعض لإحداث التوازن عبر البحث عن الحقيقة، سيسعى البعض الآخر لاستغلال أي شيء يجده في طريقه لإحداث هذا التوازن المعرفي. فلنأخذ مثالًا خياليًّا: لدينا أربعة زملاء معجبين جدًّا بمطعم ما، وفي يوم من الأيام قال لهم مديرهم في العمل إنه قرأ في الصحف أنّ المطعم يقدم أكلًا فاسدًا. هذا الخبر أخل التوازن المعرفي المستقر في عقول الأربعة حول هذا المطعم، ممّا استدعى تلقائيًّا بدء الجهود العقلية لاستعادة التوازن. قام الأول بأخذ كلام المدير على أنه احتمالٌ واردٌ، وقرّر أنه سيتحقق من الأمر حتى ولو بعد حين، وتصرف بشكل يلائم الباحث عن الحقيقة. لكن هذا ليس ما فعله الثلاثة الآخرون، فأحدهم قال لنفسه إن هذا المدير يكذب وإن كلامه مشكوك فيه دائمًا وإنّه شخص سيئ لا يؤخذ منه وربما لديه حقد ما على المطعم أو مالكه. أمّا الثالث، فقد أخذَ يفخّم من المطعم ويعظّم من شأنه وشأن مَن يديره، وأنه من المستحيل أن يقع منهم مثل هذا الخطأ، في حين قرّر الرابع أنّه ببساطة سيتجاهل كلّ ما سمعه وكأنّه لم يكن. بهذه الطرق المتنوعة، استعادوا التوازن المعرفي الذي اضطربَ بسبب كلام المدير. أليس هذا جزءًا كبيرًا مما شهدناه في أحداث الربيع العربي وما تلاها؟ ... تجاهل المعلومات الأساسية حول الوضع السياسي في البلاد؛ أو تعظيم وتفخيم الحكومة أو التشنيع على المتظاهرين والمعارضين واتهامهم بكل نقيصة؟ التجاهل هو الأسلوب الخفي الذي يصعب رصده، ولكنه يقع بشكل متكرر، فتجد شخصًا يطّلع على مصائب وفظاعات ارتكبتها حكومته فيتجاهل كل ذلك ولا يواجهه ويغمض عينيه مهما كانت الأخطاء والانتهاكات والجرائم، خصوصًا إذا لم تمسّه شخصيًّا. أما التشنيع والتعظيم فيمكن رصدهما بشكل أسهل. فمثلًا، في التشنيع سمعنا أنّ المتظاهرين عملاء من الخارج جنّدتهم أميركا واسرائيل وإيران وتركيا وقطر وحماس، وسمعنا أن المعارضين عبارة عن مجموعات من مدمني المخدرات أو المأجورين والعملاء، وأن خيامهم تشهد حفلات جنس جماعي (أو زواج متعة، كما قيل في حق المعتصمين في دوار الؤلؤة بالبحرين)، وسمعنا أن هدف المظاهرات الحقيقي هو تقسيم الدولة الواحدة إلى دويلات صغيرة وتنفيذ أجندات خارجية... إلخ. ولنأخذ بعض أحداث مصر الأخيرة التي قيل فيها كل شيء. مثلًا، وصل الأمر للزعم بأن المعتصمين في رابعة قاموا بتخزين أسلحة دمار شامل في اعتصامهم، واتُّهم الإخوان المسلمون بأنهم سبب سقوط الأندلس، وقيل إنهم يقفون وراء سد النهضة في إثيوبيا. هذه الادعاءات الفضائية هناك من يتلقّفها بالتصديق؛ فهي سبيلٌ سهلٌ ومريحٌ لإحداث التوازن الفكري. ما الأسهل: أن يخوض في نقاشات جادة ومعمقة تستدعي البحث والتأني وتجعله يعترف بأنه لا خير مطلق في السلطة ولا شرّ مطلق في من يعارضها وربما يضطر لمصادمة قناعاته؟ أم أن يجمع كل مثلبة في الكون ويصف بها خصومه بحيث يتلاءم ذلك مع تأييده للانقلاب ولقمع الخصوم؟ بالتأكيد الخيار الثاني أسهل، ويستطيع به أن يتجاهل كل المعطيات الموجودة على الساحة بناءً على أنّ الآخر ليس سوى محض شرّ. بل إذا زادت درجة القمع عن الحدّ المتوقع والمقبول لديه، قد تجده يزيد من شيطنة الآخر كي يواكب أي خلل في التوازن المعرفي كي يتجنّب مراجعة قناعاته ومواجهة ضعف رأيه وفساد منطقه؛ لذلك تجد بعضهم في البداية كان يقول إن "المعتصمين في رابعة إخواننا وأهالينا"، وإننا سنحتضنهم ونحميهم وإننا لا نضمر أي سوء تجاههم، ولكن حين وقعت المجازر لم يقف ضد قتل "إخوانه وأهله"، ولم ينتفض ضد من سُفكت دماؤهم كما هو متوقع من كلامه السابق، بل أسعفَ نفسه بتعديل توازنه المعرفي عبر فتح الباب للأكاذيب التي صورت المعتصمين كإرهابيين قتلة يستحقون الموت، وصورت عملية فض الاعتصام على أنها سلمية احترافية متوافقة مع المعايير الدولية، أما القتلى الأبرياء كالأطفال والنساء فلا بد أن الإخوان قتلوهم كي ينالوا التعاطف... إلخ. لماذا كل هذا التحايل؟ -لأن التفكير مرهق. الجهل مريح. ويتحقق هذا التوازن أيضًا عبر تعظيم القيادة السياسية التي يؤيدها المرء. فالولاء المطلق لا يمكن تبريره بالمنطق وبالنقاش الجاد؛ لأن ذلك سيكشف عوار هذا الولاء. لكن من السهل أن يريح المرء نفسه عبر إعطاء كلّ المناقب لهذه القيادة السياسية ويفخمها ويقدسها؛ ممّا يجعل هذا الولاء الأعمى يبدو منطقيًّا ومتلائمًا ومستحقًا. فسمعنا من شبه الحكام بالأنبياء والرسل ومن شبههم بالخلفاء الراشدين، وسمعنا أن الحاكم تنسب له كل منقبة وينزه عن كل مثلبة، فهو حكيم وذكي وحازم وحنون وقوي ولماح وكريم وله نظرة مستقبلية وعبقري وسابق لزمانه... إلخ. بل يتحدثون عن هيبته حتى لو كان الرجل أضحوكة، ويصفونه بالثقافة حتى لو كان أُمّيًّا جاهلاً ويقولون إنه أرعب الغرب بخطاباته وتصريحاته حتى لو كان هذا الحاكم تابعًا للبيت الأبيض. وصل فرعون لمرحلة متطرّفة من الاستبداد حين قال: "أنا ربكم الأعلى"، وهي مرحلة لا تتكرّر اليوم بهذه الصراحة، ولكن للفرعونية مراحل ومراتب أدنى، منها هذه المرحلة التي يُقال فيها للناس ضمنًا إنّ الحاكم معصوم وفوق البشر، ولا توجد صفة إيجابية إلا وقد حازَ على أعلاها ولا توجد نقيصة إلا وهو منزّه عنها. ولا يفوتني هنا أن كلّ حاكم عربي تقريبًا قد خرج مِن مؤيديه مَن يزعم لنا بأنه من آل البيت، وفي نفس الوقت خرج لنا من خصومه من يزعم أن له أصولًا يهودية (وكأن في ذلك عيبًا) كجزء من عملية التفخيم والتشنيع. وعملية البحث عن التوازن هي عمليّة مستمرة؛ أي كلّما اختلّ التوازن المعرفي كلّما شعرَ الإنسان بتهديد لتصوره عن العالم، وبالتالي سيحاول الإنسان استعادة التوازن، والكثيرون سيستعيدونه عبر تفكير متسرعّ وغير منطقي بحثًا عن الراحة مرة أخرى؛ مثلًا عبر التجاهل والتقليل من أهمية المعلومات الجديدة أو محاولة الاستزادة من المعلومات التي تتوافق مع التوازن السابق؛ عبر زيادة متابعة الوسائل الاعلامية التي تؤيد رأيه فقط والامتناع عما سواها. كان فستنجر من أبرز من أسّسوا لدراسة "التنافر المعرفي"، وفي بحث مثير له مع آخرين راقبوا مجموعة صغيرة في شيكاغو تؤمن بأنها تتواصل مع كائنات فضائية قامت باطلاعها على موعد نهاية العالم في 21 ديسمبر 1954. انتظرت المجموعة يوم نهاية العالم، وحين لم يحصل شيءٌ تناقشوا وتوصلوا لنتيجة جديدة مفادها أنّه قد تقرر إعفاء العالم في آخر لحظة بفضل إيمانهم بالنبوءة. بدل مواجهة الحقيقة، قرروا وضع تفسير أسطوري جديد يعزّز رؤيتهم السابقة ويحافظ على التوازن. وهكذا في أوضاعنا السياسية؛ فبينما كان هناكَ مَن يتعب في جمع وتحليل المعلومات والحقائق وفي تمحيص المصادر والتدقيق في مصداقية الخبر، كان هناك أيضًا مَن يفضّل الحفاظ على راحته، ولو عبر تصديق أكثر الأكاذيب جنونًا. ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ *** وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ