الحياة - سعودي في جلسة متخصصة حظيت فيها بمحاورة سيدة أعمال سعودية متخصصة في الأعمال الرائدة، والداعمة لفئة الشباب، استوقفني حديثها عن نزول المستوى الاقتصادي للأسر الصغيرة من الدخل المتوسط ليكونوا من الأسر الفقيرة بعد إنجاب الطفل الأول أو الثاني، وتعلل ذلك بأسباب عدة، لعل من أبرزها: أن هذه الأسر لا ترشّد بين مدخولاتها ومصروفاتها، فتجد رب الأسرة وسيدتها يفكران في اقتناء ما لا يتناسب مع دخلهم المادي، فتُشترى الماركات بأغلى الأثمان، وتسافر الأسرة في كل صيف بحجة الاستجمام، ثم تتراكم الديون، وتزيد الأعباء، ولا يستطيعان أن يوفرا أساسيات المعاش، ولا يفكران في زيادة الدخل بما يتناسب مع حجم الإنفاق، هذه الصورة تتكرر كثيراً في مجتمعنا، ما يؤذن بمؤشر خطر نحتاج لمواجهته وعلاجه، النظرة الخاطئة للمال، مما تنتج عنها تصرفات خاطئة. نعم لا يختلف اثنان على أن الإنسان مجبول على حب المال، وفي القرآن الكريم، يقول الله (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) وقال - جل شأنه -: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)، لكن هذا الحب لم يترك من دون ضبط هذه الغريزة وتهذيبها. ولعل من أبرز صور تهذيب الإسلام لهذه الغريزة أنه أشار إلى وظيفة المال وأنه قيام للناس، وليس محلاً لطيش السفهاء، قال تعالى: (وَلَا تُؤتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَموَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُم قِيَٰما) ويتحقق هذا بأن يستخدم المال في وظيفته الطبيعية وهي مواجهة حاجات الإنتاج والتسويق والاستهلاك العاقل وصولاً إلى استقرار الاقتصاد ونموه، وعلى أرض الواقع نجد أن النظرة إلى المال بدأت بالتغير، إذ أصبح المال غاية لذاته لا وسيلة، فأضحى معياراً لقيمة الشخص وقدره. من الشخص الأفضل؟ هو من يملك مادة أكثر، فلا الدِّين ولا التقوى، ولا العقل ولا العلم ولا المنطق بالمعيار الذي يُوزَن به الناس عند البعض، بل المرء بما يَلْبس، وما يركب، وما يسكن، وما يأكل. وليت الأمر توقَّف عند هذا الحدِّ، بل صار لمجتمع النِّسوة ميزانٌ خاص بهنَّ، وثقافة بها يقتَنِعْن، وعليها يعوِّلْن، وهي أن المرأة بحقيبتها وساعتها ومجوهراتها! والمُراقب لحفلات النِّساء لا تخفى عليه هذه الحقيقة المُرَّة، ومدارس الفتيات، وجامعات البنات أكبرُ دليل على ذلك. ولستُ في هذه المقالة أنتقد مَن يقتني ماركة معيَّنة، لكن الانتقاد مُنصبٌّ على مَن أصيب بسُعارِها، فلا يرشّد بين مدخراته ومصروفاته، ولا الجودة أو المظهر الحسَن يشكِّلان له أهميَّة، وإنَّما المهمُّ العلامة التي تعلو ما يقتنيه، وصار ميزانه الذي يزن به النَّاسُ الماركة التي يمتَلِكُها، وانتشار هذه الثقافة في جيل الفِتْية والفتَيات مؤشِّر خطر، يُؤْذِن بسطحيَّة الفكر، ومحدوديَّة الرؤية، واختلال الموازين، وتقلُّب القيم، بل وتجعل منهم أشخاصاً مصابين بسُعار الماركات؛ لأنَّ نظرة الآخَر لهم من خلالها، فلا يسعون إلى تطوير ذواتهم في أبواب العلم والأدب والتقنية وما إلى ذلك، ولا بتقويم أنفسهم في مجال الفضائل والأخلاق؛ لأنَّ شغلهم الشاغل البحث عن كلِّ صيحة في عالم «الموضة»، وحديث في سوق الماركات. غاب عن هذه الشريحة أن المرء لا يقيَّم بما يمتلكه من ماديات، وإنما يُقيَّم برصيد معنوياته، وما يقدِّمه لنفسه من تقوى الله التي تحمله على التحلِّي بكل حسَن، والتخلي عن كل خلل، وما قدمه لمجتمعه من نفع يرى أثره في حياته وبعد مماته. ختاماً خسارة أن تكون سيارتك وساعتك وحقيبتك أغلى من نفسك التي تحملها بين جنبيك. * داعية، وأكاديمية سعودية.