الشرق الأوسط اللندنية مارست الأنظمة الشيوعية والديكتاتورية اليمينية قاعدة واحدة: منع الناس من السفر. كانت تخشى أن يلوِّث مواطنوها أفكارهم بما يرونه في الخارج: الناس لا تقف في الطوابير من أجل رغيف خبز، وتشتري الجريدة التي تريدها، وترسل أبناءها إلى مدارس تلقِّن العلوم وليس الانحناء لاسم الأمين العام. إذا ملكتُ حريتك فسوف تدرك من تلقاء نفسك أنك عبد لا مواطن. نحن نقرر عنك كل شيء: كمية استهلاك الأرز، والكتاب الذي تقرأ، والمصنع الذي تعمل فيه، وفاكهة الموسم، وبطاقة التنقل، وهنا جنَّتُك. الخارج لا وجود له. رأت الأنظمة العربية في هذه القوانين سجنا مثاليا غير معلن. استبداد محكم، ولكن تحت اسم آخر، يفضل أن يكون فخما وجذابا ومناقضا تماما للواقع. طوال زمن لم يكن العالم منقسما إلى رأسمالي واشتراكي، أو غربي وشرقي، بل إلى عالم يسافر وعالم ممنوع من السفر. وكان القلة الذين يسافرون يصبحون موضع شك واشتباه، والذين يقرأون صحيفة أجنبية أو كتابا أجنبيا، مشاريع عملاء وخونة. غباء. لم ينتظر الألمان الشرقيون سقوط الجدار. غادروا بعشرات الآلاف إلى هنغاريا ليذهبوا منها إلى ألمانيا الغربية. ولحق بهم عشرات آلاف الهنغاريين. وفي ألبانيا المغلقة مثل قلاع القرون الوسطى، خرج الشعب عن بكرة أبيه يطلب أي بلد آخر، حاملا رئتيه على رأسه. حدث الشيء نفسه في الدول العربية المقلدة لجنة السجن الكبير. هجر الناس بالآلاف والملايين ولكن كلاجئين، لا كطالبي حرية وتنفس. لم ينتظروا إذن وزارة الداخلية ودوائر المخابرات وحرس الحدود. طفقوا في كل اتجاه. هرب العراقيون نحو سوريا ومنها. وفي الاتجاه المعاكس، فنحن في بلاد الحريات والرأي الآخر. علمنا السوفيات كيف نبني السجون وفشلوا في تعليمنا الدرس الأهم، وهو أنه يجب أن ندير ظهرنا لأبوابها عندما يصبح سقوطها حتميا. ذهب سجانو برلينالشرقية إلى منازلهم أو منازل خليلاتهم عندما أيقنوا أن تلك اللحظة قد حلت. لكن في ليبيا كان القائد المفاجأ بمشهد الممنوعين من السفر يخاطبهم بالجرذان، ووريثه يتحدث عن ضيوفه السابقين الذين «كانوا يأتون إلى هنا ويلعقون أحذيتنا»، قالها بالفصحى، تقديرا منه للصحافيين الحاضرين. كانت بولندا إحدى أكثر الدول الاشتراكية تشددا، لكنها وضعت نصف قرن من الحديد جانبا وفتحت أبوابها للفكر الجديد، كذلك فعلت تشيكوسلوفاكيا، كذلك فعل نظام جيفكوف المتخلف في بلغاريا، انتقلوا جميعا من عالم إلى عالم جديد بكل سهولة، لا دماء ولا دبابات ولا طائرات ولا دمار، نزعوا عن إعلام بلادهم شعارها الوطني الأخير: «ممنوع السفر» وقالوا لشعوبهم، عذرا عن الماضي، كان مؤسفا.