التقرير - السعودية المثاقفة (Acculturation) من المصطلحات الأنثربولوجية التي تعبّر عن أوجه التبادل الثقافي (الأخذ والعطاء) بين الحضارات والثقافات المتعددة. وهو اتجاه يسعى إلى أن يكون وسطًا بين الانفتاح المطلق الذي يَؤول إلى الانصهار في ثقافة الآخر وبين الانغلاق المطلق الذي يَؤول إلى الانعزال تمامًا عن الآخر والعالَم بأسره. وبهذا المعنى، تعدّ المثاقفة رافدًا مهمًّا تسعى كلُّ أمةٍ من خلاله إلى معرفة الآخر واستثمار ما لديه من معطيات إنسانية وحضارية، وإلى تنمية كيانها الثقافي بشكل خلاق وغير مضر بمقومات الهُوية وثوابتها. كما إن مفهوم المثاقفة يصلح أن يكون بديلًا عن مفهوم (الغزو الثقافي) الذي يتضمن في طياته الرغبة في محو الهوية وإلحاقها بالآخر وفرض التبعية عليه، ومعاملته بنظرة فوقية احتقارية. هكذا تُقدّم المثاقفة في الدراسات الأنثروبولوجية؛ حالة من الاعتدال بين الذوبان والجمود في التعاطي مع ثقافة الآخر. هذا ما يتعلق بالمفهوم، نظريًّا، أو بالأدق ما يتعلق بالجانب الذي يبدو مقبولًا ومشرقًا كحالة من الانفتاح والتبادل الثقافي والتكامل الحضاري؛ ولكن إذا تأملنا في السياقات التاريخية لهذا المفهوم وتطبيقاته الواقعية، سنجده مختلفًا عمّا يطرح ويتداول نظريًّا، بل لا يخلو من جوانب (ظلامية ورجعية) إذا اعتبرنا بأن الاستعمار والهيمنة الإمبريالية التي تسعى إلى إلغاء الآخر ومحو تاريخه وهُويته، نوع من السلوك الكولونيالي المتخلف والرجعي وإن تمظهر في شكل القوة والتقوف العسكري والحضاري. لقد كانت المثاقفة تُمارس تاريخيًّا بكونها "علاقة بين ثقافة متفوقة وثقافة متخلفة"، بمعنى آخر كما يقول حسن حنفي في كتابه (مقدمة في الاستغراب): "إن المثاقفة التي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي والتبادل الثقافي، هي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله، واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارب بالجديدة والأنماط الأخرى للتقدم". ولهذا كان أغلب النتاج الثقافي في محيطنا العربي في معظم أشكاله وأنواعه؛ الأدبية والفلسفية والسياسية، لا يخرج عن هذه الممارسة الغربية للمثاقفة. فكثير من مثقفينا (والمستغربين منهم على وجه الخصوص) قد وصل بهم المطاف من خلال هذه المثاقفة إلى حالةٍ لم يعدِ الواحدُ منهم قادرًا على الإبداع قولًا أو فعلًا إلا إذا تمت إحالة إبداعه إلى مصادره الخارجية في الحضارة الغربية: ماركسية أو وجودية أو وضعية أو بنيوية أو تفكيكية أو أيّ شيء آخر، المهم أن يكون النموذج الغربي هو المنطلق. وبعبارة أخرى؛ أصبح الغرب من خلال هذه المثاقفة هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي عربي. وكما يعترف حسن حنفي (وأستشهد به لكونه يُعد من أبرز من مارس المثاقفة مع الفكر الغربي) قائلًا: "منذ أكثر من قرنين من الزمان نترجم، ونعرض، ونشرح، ونفسر التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفا صريحًا واضحًا. ما زال موقفنا موقف الناقل، عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد... وما زال أكبر مشروع لدينا إلى وقت قريب هو النقل، والذي سمّيناه ترجمة الأعمال الكاملة لكبار المفكرين في الغرب، ويظل أكبر مشروع لنا في ثورتنا الحديثة هو ترجمة (الألف كتاب) نقلًا عن المؤلفات الغربية... وكأننا محكوم علينا بالنقل، عاجزون عن الإبداع، دورنا في التاريخ هو دور التلميذ والمتعلم والصبي أمام الأستاذ والمعلم الكبير... لقد أصبحنا وكلاء حضاريّين للغرب، وأصبح حامل العلم والفكر لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر عدد ممكن من الأسماء والأعلام والمذاهب الفكرية من الغرب منتسبًا إلى أحدها، داخلًا في معاركها، داخلًا فيما لا شأن له به، حاشرًا نفسه في معارك لم ينشئها ولم يكن طرفًا فيها... وتنتشر المصطلحات بين الباحثين الشباب فيشعرون بضالتهم أمامها: الهرمنيوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، التفكيكية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترانسندتالية، وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الابتسميه، الدياكرونية، السنكرونية... إلخ. وأصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم هذه المصطلحات". هذا اعتراف في غاية النزاهة والشفافية من أحد كبار الممارسين للمثاقفة مع الفكر الغربي. أريد أن أشير هنا إلى أن الفكرة الأساسية التي تقف وراء إشكالية (المثقافة)، هي كالتالي: الاعتقاد بأن الثقافة الغربية نتاج كوني عالمي، تتجاوز الزمان والمكان، وتَعْبر حدود الجغرافيا والتاريخ. وبالتالي لا تختصّ بحضارة دون حضارة، بل تكتسب الإطلاق والتعميم، وبالتالي المعياريّة لكل شيء؛ فكل شيء يكون صحيحًا بحسب النموذج الغربي، ويكون خاطئًا أيضًا بحسب النموذج الغربي. هذا الاعتقاد هو أحد الأوهام التي ما زالت مسيطرة على ذهنية بعض النخب الثقافية، التي يحلوا لها (كوننة) الثقافة الغربية ونزع كل سمات الخصوصية عنها. فالفكر الغربي، بالرغم من إعجابنا به في كثير من الأحيان، وإقرارنا بتقدمه وتفوقه في مجالات عديدة، وإيماننا بضرورة التعلم والاستفادة منه، إلا أنه لا يعدو أن يكون -كأي فكر بشري- مرتبطًا بسياق تاريخي وثقافي معين له خصوصيته في بعض عناصره، لأنه نشأ في ظل ظروف معينة هي تاريخ الغرب نفسه، وبالتالي فهو صدى لتلك الظروف. والمفكِّرون الغربيون -كما يقول حسن حنفي في اعترافه السابق-: "يعبّرون عن ذلك بأنفسهم بقولهم: فلسفتنا، حضارتنا، فكرنا، أدبنا، فنّنا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا، بل حتى ديننا! وإلهنا! فعند الكتَّاب الأوربيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارة بعينها، وبأنهم ينتمون إلى حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى. لذلك كان خطؤنا -نحن الكتَّاب العرب غير الأوربيين، الذين ترجموا مؤلفاتهم وشرحوها، وعرضوها، بل وانتسبوا إليها، واعتنقوها- اعتبار الحضارة الأوربية حضارة عامة للناس جميعًا، ولم نرَ نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبة في الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعي كافٍ بتراثنا القديم، أو كان هذا الوعي محصورًا في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين". ولهذا لاحظ المفكر الراحل محمد عابد الجابري، أن معظم التيارات الفكرية في الخطاب العربي المعاصر، كان حضورها في المشهد الثقافي مرتبكًا وغير متماسك؛ لأنها كانت "تعبر عن وضعية شاذة، الوضعية الطفيلية الوظيفية التي تقوم بدور الوسيط والخادم للثقافة الغالبة والمهيمنة" -على حدّ وصفه-. ثم يقول: "كان المعبرون عن تلك التيارات سواء بالصيغ الأدبية أو الفلسفية أو السياسية، يصدرون عن وعي مزيف، يجسد ظاهرة أخرى شاذة يمكن وصفها بأنها ظاهرة (الاغتراب في الغرب)... لقد فشلت جميع المحاولات من هذا القبيل؛ لأنها محاولات لا تتعدى في الغالب مجرد الاقتباس السطحي من بناء فوقي غريب عنا، بناء مرتبط بالأسس المادية للتجارب الحياتية للغرب وحضارته. إن البرغسونية أو الوجودية أو الشخصانية أو السريالية أو الماركوزية أو الوضعية المنطقية... إلخ، كلها مظاهر فكرية تعبر عن واقع معين، واقع الغرب وتناقضاته وتوتر بُناه وشخصيته. أما نحن في الوطن العربي، فإننا كنّا وما زلنا نعيش واقعًا مختلفًا اختلافًا أساسيًّا عن واقع الغرب وتجربته، إننا نعيش تجربة الميلاد، والغرب يعيش تجربة أخرى، قد تكون تجربة شباب أو كهولة أو شيخوخة". لقد كتب الجابري هذا الكلام في نهاية عام 2007. في محاضرة له ألقيت في الندوة السنوية لجريدة الاتحاد الإمارتية، تحدث فيها عن تجربة الفكر العربي المعاصر في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وحريّ بالطليعة المثقفة من الأجيال الجديدة من الشباب أن تأخذ هذه الدروس في محل الاعتبار وهي تمارس (الانفتاح) و(المثاقفة) مع الفكر الغربي وتنهل من إبداعاته وفتوحاته المعرفية، بحيث لا تكرّر تلك الأخطاء مرة أخرى، وألا نكون عبارة عن مجرد ناقلين ووسطاء لثقافة الأقوياء المهيمنين دون نقد وتمييز، وليأخذوا في الحسبان أنهم ليسوا (أيتامًا) أو (لقطاء) في تاريخ الحضارات والثقافات، بل يملكون نسبًا حضاريًّا أصيلًا يمتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا. نعم فيه كل شيء، فيه الحق والباطل، والمشرق والمظلم، والنفيس والرخيص، والنافع والضار... كأي حضارة وثقافة بشرية لا تخلو من كل ذلك. والمشكلة ليست هنا.. إنما تكمن المشكلة فيما عبّر عنه برهان غليون في كتابه (اغتيال العقل) بقوله: "عندما تصاب الأمة أو جماعة بصدمة كبيرة تفقد ثقتها بنفسها، تصبح مستعدة لرؤية كل العيوب في تاريخها، ورؤية كل المحاسن في تاريخ غيرها، وتنتقل من الدراسة الموضوعية المحددة إلى اتهام النفس أو الواقع السيئ أو التاريخ أو التراث... ومن الواضح أن هذه المواقف لا تساهم في تقدمها، بل تحرمها من ميزة الرؤية الواضحة والصحيحة، وتدفعها إلى الغرق أكثر فأكثر في الحالة التي تعيش فيها". لقد نظر (المهاتما غاندي) إلى مواطنيه الهنود وهم يعيشون تحت الاحتلال والجهل والتخلف، في الوقت الذي كانوا بأمسّ الحاجة إلى حضارة وتفوق ذلك المحتل والتعلم منه... فقال لهم: "إنني أفتح نوافذي للشمس والريح، ولكنني أتحدى أية ريح أن تقتلعني من جذوري".