العربي الجديد اللندنية محمد أبو خضير لا تسامحْنا؛ شخصياً أخجل أن أطلب منك السماح، لأنني لا أستحقه، لأننا جميعاً فشلنا في حمايتك، وأخفقنا في نجدتك، بل تركناك وحيداً تحترق حياً، كما تركنا من قبلك فلسطين تحترق بطيئاَ، تئن حزناً على سقطة كل شهيد على ترابها، وتتمزق ألماً تحت ثقل دباباتٍ وجرافات تذبح أعماقها. هل صَدّقت وهم السلام والأمان تحت "أوسلو" وشقيقاتها؟ هل خدعنا الحلم في داخلك، وفي روحك الفتية؟ بل حولناه إلى كابوس اختزل حكاية فلسطين وشعبها في دقائق عذاب من جحيم دانتي على الأرض، فكنت الضحية على معبد سلام موهوم ومأفون، فاستقوى الجلاد، واستوحش في نهش جسدك، لأنك في لحظةٍ أصبحت أنت فلسطين. توقيع "أوسلو" كان مصيبة، لكن الخطيئة الأكبر ترك المستعمرات بساكنيها، مدججين بالسلاح، وبرؤية عنصريةٍ، لا ترى في أصحاب الأرض إلا إدانة يومية لوجودهم، لا سبيل للتخلص منها إلا بإلغاء وجود من هم امتداد للأرض، وليس طارئين غزاة، لا يفهمون جمال شقائق النعمان، ولا تسحرهم رائحة الزعتر والزيتون المنثبقة من أحشائها. الغازي لا يرى حُمرة شقائق النعمان، ولا يستهويه مذاق زيت الزيتون والزعتر، لأنها تذكير يومي بجريمته وبغربته وبتطفله، وبأن لا علاقة عضوية له بالمكان والزمان، الأرض تتسع لجميع البشر في أي مكان، لكنها تلفظ من لا يسمع نبضها، فالغازي هو نقيض رحابة الأرض وعطائها، لأنه في صراع دائم معها، يريد تطويعها، وجعلها قلعة لتحصين استعماره ونقطة انطلاق لغزواته. لذا، نرى المستعمرات تبنى في أعلى نقطة رغبة في السيطرة، إذ أن العلو والارتفاع في قاموس الغزاة أداة للإخضاع وفرض الخنوع، ولذا، لا احترام لجمالية هندسة معمارية، أو تناسق مع الطبيعة، أو بيئة، لأن المحيط هو العدو الدائم، فالمحيط هو الفلسطيني، ولا تعامل مع الفلسطيني إلا بالترهيب والقتل، فالفلسطيني يتنفس الوطن، والمستوطن الغازي يريد خنق هذا الوطن. القضية الفلسطينية لا تُختَصر في المستوطنات، لأن الغازي يريد أن يجعل من فلسطين التاريخية كلها مستوطنة كبرى لا تحيا ولا تدوم، إلا بإنهاء فلسطينية الأرض وعروبتها وإنسانية أهلها وأصحابها، فما نراه من كراهية واستهداف لأطفال وتحريض على القتل والدمار ليس انحرافاً، بل ثباتاً والتزاماً بثقافة استيطان عنصرية، تتغذى على الكراهية، لأن أنسنة أصحاب الأرض بداية هزيمتها. لا غرابة في انتشار واستعار هذه الكراهية، لأن أغلب الإسرائيليين لا يريدون مواجهة واقع الخطيئة الأولى وتوابع الاحتلال، لأن قوة الترسانة العسكرية، الممولة أميركياً، ومهادنة وحتى تواطؤ النظام العربي الرسمي، وتخاذل قيادة فلسطينية، أولويتها إثبات حسن سلوك للسجّان، ساعدت الإسرائيليين بالاستمرار في العيش في قوقعتهم، جلَ شعارهم "لا أريد الإزعاج"، والانزعاج بما يحدث لفلسطيني ما دامت حياتي هانئة مستمرة. فالسلام في الثقافة الإسرائيلية هو سلام في حياتهم، وهو حريتهم في العيش والسهر والتمتع بالشاطئ والجبل، فلا يهم إذا سقطت الصواريخ على غزة، واجتاح الجيش الضفة، أو دُمرت بيوت وصودرَت أراضٍ، مادام كل ذلك لا يعكر صفو حياتهم، فحياة الفلسطيني لا تساوي لحظة قلق عابر تأخذهم من عالمهم. السلام في الثقافة الإسرائيلية هو "التنسيق الأمني"، فكل شيء من جيش احتلال وشرطة، وبسلطة فلسطينية بدون سلطة، كلها موجودة لحماية الإسرائيلي؛ ففي العقلية العنصرية الإسرائيلي الحضاري هو الذي يفهم معنى الماء والدواء والاستحمام والاستجمام، هو الذي يتذوق الموسيقى والطعام، وعيش الحب والهيام، والتجول بحرية، بينما "الهمجي الفلسطيني" لا يفتقد أشياء لا يفهمها، وبالتالي، لا أهمية لحرمانه منها. نعم، هناك أصوات ترفض هذا الانعدام للإنسانية، وأصوات تشارك الفلسطيني في مواجهة البطش والقمع، لكنها غالباً ما تصبح هدفاً للعدائية نفسها، قد لا يقتلها الجيش والمستوطنون، لأنها يهودية، وإن كان الإجرام إذا انطلق ليس له حدود، وقد تسقط الأصوات قتلاً أو تنكيلاً، لأنه تزعج وتتحدى إجماع العنصرية والكراهية، لذا تبقى أقلية. محمد قد يكون، أو لا يكون، قد فكر طويلاً بهذا كله، بل أراد أن يعيش ويحلم، ويقص شعره على الموضة، ويختار ملابس تستهويه، يزهو بها وبشبوبيته، لكنه أحرِق واحترق، واحترقت قلوبنا معه، وبقي الثقل على ضمائرنا. محمد لا تسامحنا.