التقرير - السعودية ماجنا كارتا، كلمتان لاتينيتان تعني: الميثاق أو العهد العظيم، وهي وثيقة ملكية بريطانية تعرف أيضًا ب(الميثاق العظيم للحريات في إنكلترا والحريات في الغابة) تمّ عقدها بين الملك جون لاكلاند، والبارونات (=النبلاء الإقطاعيون)، والكنيسة، سنة 1215م. وهي وإنْ لم تكن أول وثيقة دستورية على مستوى التاريخ الإنساني، لكنّها تعدّ أول وثيقة دستورية في إطار الأنظمة الملكية؛ حيث كانت بمثابة الأساس لمبادئ الدستور فيما يتعلق بحكم الملوك ومحدودية نفوذهم وسلطتهم وصلاحياتهم. لقد اعتُبرتْ وثيقة (ماجنا كارتا) من أهمّ الوثائق القانونية في تاريخ الديمقراطيات، واللبنة الأولى في تاريخ تطور فكرة سيادة القانون، والمرجعية الملهمة لكثير من الوثائق الدستورية، كالوثيقة التي كتبها الآباء المؤسسون للولايات المتحدةالأمريكية. كيف نشأت فكرة هذه الوثيقة؟ في عام 1066م حكمَ بريطانيا (النورمانديون) الذين قدموا من شمال فرنسا، لأكثر من مائة عام، احترموا فيها القوانين الإقطاعية والعدالة بين الناس، دون أن تكون لسلطتهم توغل في الحياة العامة، أو في مصالح البارونات، أو في شؤون الكنيسة؛ ولهذا لم تكن هناك حاجة ملحّة لمواجهة الملك أو تقييد سلطته. بعبارة أقرب: كان الحكم رشيدًا إلى حدّ ما، نتيجة لرشدية الحاكمين في ذلك الوقت، وليس بسبب نظام أو قانون معيّن. فصلاح الحكم في القرون الوسطى عمومًا، سواء في الشرق والغرب، كان مرهونًا بصلاح الحاكم، لا بصلاح قانون معين ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. ولكن لما تولّى الملك جون لاكلاند العرش في عام 1199م، أساءَ استخدام سلطته؛ فبعد هزائمه في معاركه ضد فرنسا، طالبَ الإقطاعيين بمزيد من الخدمات الحربية أكثر مما طالبهم به الملوك الذين سبقوه، ووهب مناصب الدولة للمزايدين والمنتفعين؛ أي لمن يدفع أكثر وليس بحسب الأهلية والكفاءة. كما زاد من أعباء الضرائب دون الحصول على موافقة النبلاء الإقطاعيين، خلافًا لما جرى به العرف الإقطاعي، من أن الملك يجمع النبلاء ويتشاور معهم قبل أن يصدر قرارًا بزيادة الضرائب. إضافةً إلى تعدّيه على سلطة القضاء؛ حيث كانت تفصّل الأحكام القضائية بحسب رغبة الملك لا طبقًا للقانون، مما أدى إلى تدهور المؤسسة القضائية؛ الأمر الذي دقّ ناقوس الخطر لدى الطبقة السياسية والدينية والإقطاعية. هذا التصرّف دفع النبلاء للاجتماع مع قيادات الكنيسة للنظر في كيفية الحدّ من سلطة الملك جون، فقاموا بصياغة وثيقة تشتمل على مجموعة من المبادئ والحقوق، تهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين القوى السياسة الثلاث في إنكلترا، وهي: الملك، والبارونات، والكنيسة. لكنّ الملك رفضَ الاستجابة لمطالبهم مرتين، وبالتالي اضطرّ البارونات وبمساعدة القساوسة ورؤوساء الأديرة إلى حشد جيش شعبيّ لإجبار الملك على تحقيق مطالبهم. ولمّا أدرك جون استحالة هزيمة هذا الجيش، وافق مرغمًا على مطالبهم. اشتملت (ماجنا كارتا) على 63 مادة، القسم الأكبر منها كان يهدف أساسًا لحماية مصالح النبلاء والمنتمين إلى الطبقة الإقطاعية من تدخلات الملك الاعتباطية، وكذلك اشتملت الوثيقة على مواد تهدف إلى حماية الكنيسة من تدخلات البلاط الملكي، لكي تمارس شؤونها الدينية بإخلاص ونزاهة دون وصاية أو ترهيب أو ترغيب. هذا ما يحتويه القسم الأكبر من الوثيقة في مقابل موادّ قليلة، نصّت على بعض الحقوق لعامة الأفراد والطبقة الوسطى الناشئة في المدن. منها: أنّه لا يجوز سلب أي رجل حر أملاكَه، أو سجنه إلا إذا خضع لمحكمة عادلة، وبعبارة الوثيقة: "لن نحتجز أي رجل حر أو يسجن أو تنتزع أملاكه أو حقه في ممارسة عاداته بحرية أو يلاحق قانونيًّا أو يتعرض لأي شكل من أشكال الضرر، ولن نصدر حكمًا في حقّه أو يدان إلا بحكم شرعي يأتي به أقرانه (فكرة المحلّفين) أو قانون البلاد، لن نخدع أي رجل ولن نحرمه العدالة أو حقوقه ولن نؤجلها". وهذه المادة في تلك الفترة التاريخية، تعتبر نقلة نوعية، بل وجذرية في طبية الأنظمة الملكية؛ حيث بموجبها لم تعد حرية الناس وأملاكهم مرهونة بإرادة ومزاجية الملك، بل مرهونة بالقانون فقط. نعم، لم يُذكر المواطنون العاديون وغيرهم من المزارعين في الوثيقة إلا قليلًا، رغم أنهم الأكثرية الغالبة من السكان. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الوقت ما زال مبكرًا جدًّا لمثل هذه المطالب ذات الطبيعة الليبرالية التي كانت من اللامفكَّر فيه في الوعي الأوروبي، نحن ما زلنا في القرون الوسطى، وفي بداية القرن الثالث عشر، ولم تكن في المشهد السياسي سوى ثلاث قوى رئيسة: الملك، والبارونات، والكنيسة، والشعب كان تابعا ومنقسمًا بين هذه القوى. إلا أنّ المهم هنا، هو أن مواد الوثيقة والتي كانت معنية بالطبقة الإقطاعية فقط في ذلك الوقت، أضحت فيما بعد موادَّ ذات أهمية لكل أفراد الشعب، فقد كانت بمثابة الحجر الأساس للبناء عليها والانطلاق نحو المطالبة والمحاججة والنضال لتعميم تلك الحقوق على جميع أفراد الشعب. بل إنّ أبرز الفتوحات القانونية والسياسية التي دشنتها وثيقة (ماجنا كرتا) هي إلزام الملك وإجباره على أن يسعى للحصول على مشورة وموافقة النبلاء في كلّ المسائل المهمة في بريطانيا. وهذا منعطف مهمّ جدًّا في تاريخ الملكيات. كما نصّت أيضًا على أنّه لا يجوز زيادة أي ضرائب خاصة إلا بموافقة مجلس النبلاء؛ الأمر الذي سيتطلب، لاحقًا، وجود مجلس عمومي، ذي سلطة تشريعية ورقابية موازٍ ومساوٍ ومشارك لسلطة البلاط الملكي، حيث يجتمع أعضاؤه في كل فترة محدد، ويتشاورون في إصدار بعض التشريعات أو النظر في قرارات الملك، وقد نصت الوثيقة فعلًا على ضرورة وجود هذا المجلس. نحن هنا أمام تحوّل جوهري في مفهوم النظام الملكي: من نظام ملكي مطلق يحكم فيه الحاكم لا معقّب لحكمه، إلى نظام ملكي بشري نسبي مقيّد، يحكم فيه الحاكم بموجب تعاقد بينه وبين المحكومين، وعلى أساس وثيقة مشتملة لجملة من المبادئ والحقوق. عندها، وعندها فقط، تصبح شرعية الملك مستمدة، لا من الحق الإلهي، ولا من السيف والتغلب، ولا لأنّه من السلالة الحاكمة، وإنما يستمد شرعيته من دستور الأمة، إنْ حافظ عليه، حافظ على شرعيته، وإنْ انتقص منه، انتقص من شرعيته، وإذا أسقطه وتجاوزه، سقطت شرعيته وتجاوزته الأمة. نحن هنا أمام معادلة تقول: شرعية العرش في مقابل الالتزام بالدستور... هنا يكمن الفرق العميق بين الملكية المطلقة، والملكية الدستورية. إن ما نراه اليوم من ملكيات دستورية ديمقراطية في العالم، وفي أوروبا تحديدًا، لم تكن منذ نشأتها بهذه الصفة السياسية المتطورة وبهذا الواقع الدستوري، بل كانت كغيرها من الممالك في العالم، نشأت وتأسست من خلال السيف والتغلّب والقهر والاستيلاء، والذي ينتج بطبيعة الحال، التفرد المطلق بالحكم. كل الملكيات تقريبًا سرديتها التاريخية حول نشأتها هي ذات عنوان واحد وإن اختلفت الأحداث، عنوانها: الانتصار على الخصوم المنافسين وإخضاع الناس بالسيف لحكم المتغلّب. وبالتالي ليس الشأن والإشكال والأزمة هو في هذه السردية ذات الطبيعة العنيفة والاستيلائية القهرية، إنما الشأن والإشكال حين تتجمّد (الملكية الاستبدادية) على هذه السردية وترفض تجاوزها وتعاند التاريخ وتصرّ على أن تؤسس نظامًا على سردية التغلب والسيف. هنا تكمن الأزمة والإشكال، بعكس (الملكيات الديمقراطية) التي لم تكن (سردية نشأتها) -بالرغم من دمويّتها وعنفها- عائقًا أمام تجاوزها وتطورها وانتقالها من فكرة الحُكْم المطلق القائم على مبدأ السيف، إلى الحكم المقيّد القائم على مبدأ الدستور، الضامن للحقوق والحريات والانفتاح والمشاركة الشعبية. لقد تطورت معظم الملكيات في العالم، ما عدا الملكيات العربية، لأسباب وعوامل لا تتسع المقالة الآن لمناقشتها، ولكن الذي يجب أن يكون واضحًا، هو أن هذا الواقع لن يبقى طيلة الدهر؛ فجميع شعوب العالم، إما أنّها قد نالت حريتها وحقوقها السياسية، وإما أنها في طريقها إليه، وبالتالي فلا ينبغي أن تبقى الشعوب العربية استثناءاً عن بقية شعوب العالم، لا يصحّ معاندة التاريخ والجمود والتصلّب على ماضٍ قد يكون صالحًا ومناسبًا في وقت ما، أمام تحديات جديدة، وحاضر متغير، وأجيال تحمل وعيًا وفكرًا مختلفًا عن ثقافة الأجيال السابقة. بدل أن تقف أمام قطار التغيير فيدهسك؛ اركبه وقده بنفسك إلى طريق يتجه إليه الجميع.