التقرير - السعودية شهدتِ الخمسينياتُ الميلادية في أمريكا حملة سياسية/إعلامية عُرفت فيما بعد ب (المكارثية)، وهي نسبة إلى (جوزيف مكارثي) عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الذي ظهر على شاشة التلفزيون في 1950م ليعلن أنه يملك قائمة باسم 205 شيوعيًّا يعملون ويرسمون سياسة وزارة الخارجية الأمريكية. وبدأت محاكم التفتيش! كانت حملة متكاملة تهدف إلى تشديد (الرقابة) على الشيوعيين، وإعداد قوائم بأسماء المشتبَه بهم، ثم التضييق عليهم وملاحقة كل مَن ألصقت به تهمة الانتماء أو التقارب مع الشيوعيين، والحكم عليهم بالاعتقال (اعتقل المئات) أو الطرد من أعمالهم (طرد 10-12 ألف موظف حكومي). ثم تشكّلت لدى عامة الناس ردّة فعل متطرفة، لكنّها متوقعة ومقصودة، وصار كل إنسان يشكّ في كل إنسان، وصار كثير من الناس يروّجون لفكرة "مكارثي" ويطبقون بأنفسهم آليات الرقابة والاشتباه وتنفيذ الحكم. محاكم تفتيش؛ لكنها من الطراز الأمريكي الفاخر. ** ** ** لماذا صدّق الناس (مكارثي)؟ ربما لأنه مواطن صالح. (جوزيف مكارثي) حاصلٌ على شهادة المحاماة، وقاضي محكمة استئناف، ومتطوع في قوات مشاة البحرية الأمريكي، وخدم خلال الحرب العالمية الثانية، وهو عضو نشيط في الحزب الجمهوري. رجلٌ وطنيّ من الدرجة الأولى، ويقول للناس إنه (يعلم) بوجود ما يزيد عن 200 (مندس) من الشيوعيين والجواسيس الروس والمتعاطفين معهم داخل أروقة الحكومة الأمريكية. كيف تتوقع أن يكون ردّ فعل الجمهور؟ مَن سيكون الأبله الذي يعترض على مبدأ حماية الوطن أو يرفض حملة وطنية لتطهير البلد من المندسين الذين لا يريدون له نفعًا أو خيرًا؟ لكن تزايد جنون جلاد محكمة التفتيش.. وتمّ (تصنيف) كثير من المواطنين من أجل إلصاق التهمة بهم، وتشكّلت فرقُ عملٍ ولجان متخصصة لفرز معايير الاتهام، ثم ملاحقة (المشتبه) بهم، وتمّ رفع تقارير تقيّم مدى ولاء المواطنين وصدق مواطنتهم. وتزايد سعار الكلاب البوليسية... لم يتوقف الأمر عند اتهام عامة الناس، بل وصل إلى اتهام رموز وطنية كبرى منها الرئيس الأمريكي هاري ترومان ووزير دفاعه جورج مارشال، وأدرك كثير من الناس أن خَطْبًا ما ينخر أصل حملة "مكارثي" المختلّة فكرًا ومنهجًا. ** ** ** ثم تحركت فئة قليلة من المثقفين... كان أبرزهم (إدوارد مورو) الذي يعدُّ من أبرز الأعلام الصحفية في تاريخ الإعلام المعاصر، وقد برز اسمه أثناء الحرب العالمية الثانية وصار برنامجه ذا شعبية واسعة. كان ل (مورو) برنامج اسمه (See It Now) قدّم من خلاله سلسلة من التقارير التلفزيونية تميزت بالجرأة (وكثيرًا من التهور في حساب كثير من الناس)، نشرها في حلقة بعنوان (A Report on Senator Joseph R. McCarthy)، ونشر فيها مقاطع مرئية ل (مكارثي) وهو يتّهم رموزًا وطنية معروفة بالخيانة، بل يصف الحزب الديمقراطي بخيانة الوطن لمدة 20 عامًا. ثمّ عرضَ اتهامات (مكارثي) على الحقائق، وجلب الخبراء وعددًا من الرموز الحقوقية والقانونية والسياسية، وبدأتْ سلسة من المعارك الإعلامية بين الطرفين، وبطبيعة الحال اتّهم السيناتور (مكارثي) الصحفي (مورو) بأن له علاقات بالاستخبارات الروسية. قال (مورو) في استنتاجه الأخير عن (مكارثي): "كان إنجازه الأهم تشويش الرأي العام والخلط بين الخطر الشيوعي داخليًّا وخارجيًّا. يجب علينا ألّا نخلط بين المعارضة وعدم الولاء. يجب علينا أن نتذكر دائمًا أن الاتهام ليس دليلًا، وأنّ الحكم يبنى على الحقائق ومن خلال الإجراءات القانونية الواجبة. لن نسير ويخشى بعضنا بعضًا. لن نقاد بالخوف نحو عصور الجهل". وقال: "أوجدت تصرفات سيناتور صغير من ولاية ويسكونسن الحذر والقلق بين حلفائنا، وراحة كبيرة لدى أعدائنا. الذي حصل خطأ من؟ ليس خطؤه. هو لم يخلق هذا الجو من الخوف، لكنه استغله وبنجاح". ** ** ** هل كان هناك شيوعيون في أمريكا؟ نعم. لكن صيّر السياسيون (المكارثيون) الشيوعية وحشًا مرعبًا ينفرُ منه الناس إلى أحضان الأمن الذي يصنعه السياسي وفق رؤيته ومصالحه. وكثيرًا ما يسعى السياسي إلى خلق ثقافة الشك والخوف، لأنّ الشعب الذي يخاف تسهل السيطرة عليه. وصارَ كلّ مَن يطالب -في أمريكا الخمسينيات- بحقوق الطفل أو المرأة أو بمعالجة مشكلة البطالة معرضًاً لتهمة (الشيوعية) أو (انعدام الولاء)، فيسهل عزله عن باقي المجتمع ثم قمعه بشكل أو بآخر. واستطاع السياسي -مؤقتًا- طحن كل محاولات الإصلاح والتغيير. (تنقد وزارة المياه؟ يزعجك نظام المرور؟ فساد في وزارة التعليم؟ مكيّفات المسجد عطلانة؟ منهج الرياضيات صعب؟ عندك حمّى وسعال؟ -أنت إخونجي متخف أو صحونجي داعشيّ أو صفويّ عميل أو كائن فضائي ولون دمك برتقالي) ونتيجة لخلق ذلك ال (بعبع) السياسي، صارت (الشيوعية) وسواسًا يسكن عقول بعض المثقفين، فلا يبصرون ولا يسمعون إلّا من خلالها، وذابت الفروق -عندهم- بين الفكر والمنهج والموقف السياسي والأمني، وكأنّهم يجهلون أن التقاطع الفكري بين إنسان وآخر لا يعني بحال تطابق الفكر كله أو المنهج أو الولاء السياسي أو المجتمعي. وهذه من أبجديات الثقافة، فتقبّلك لفكرة ما لا يعني أبدًا تلوّن انتمائك أو تغير ولاءاتك. (أنت تؤيد مواقف غاندي ورؤى تشومسكي وقناعات مالكولم إكس؟ إذن أنت بوذيّ مسالم يهوديّ يساريّ مسلم حركيّ وولاؤك للهند وأمريكا وربما إسرائيل). لا يروّج لهذا العبث إلا ساذج أو دمية أو من يريد تسهيل عملية قولبة التهم للناس ليسهل قمعهم. لكن ذاك كان ما أراده السياسي، وروّج له المثقف، وتشكلت فوضى مجتمعية مرعبة. والفوضى وسط يختاره السياسي دائمًا؛ ففي عبث الفوضى يسهل اقتناص رؤوس الخصوم. ** ** ** تبيّن لاحقًا أن (المكارثية) كانت حملة سياسية/إعلامية ذات هدف واحد تفرّعت منه أهداف صغيرة. فالحزب الجمهوري أراد تدمير مصداقية منافسه الديمقراطي، والأحزاب الكاثوليكية أرادت إزاحة خصومها، و(مكارثي) كانت له حساباته الشخصية وطموحه السياسي، وكما أشار (مورو)، فإن (مكارثي) لم يخلق الفكرة ولم يبدأ الحرب، فقد بدأت منذ الأربعينات (وربما قبلها)، لكنّه نجح في تفعيلها واستغلّها بدهاء. فريق (مكارثي) ومَن معه كان يرفع لافتة (الولاء للوطن)، ثم يلاحق الناس من أجل كشف ال (أجندة الخفية) (ضد الوطن)، ليكتشف الناس لاحقًا أن أصحاب ال (أجندة الخفية) هم أدعياء المواطنة. كشفت جهود قليل من المثقفين وعلى رأسها تقارير (مورو) تهافُت حملة (مكارثي)، وكانت سببًا قويًّا في بدء سلسة تحقيقات أمرَ بها مجلس الشيوخ الأمريكي انتهت بإدانة السيناتور (جوزيف مكارثي) وعزله عن العمل السياسي. ما فعله (مورو) كان مغامرة، أو مقامرة! ألصقوا به تهمة العمل مع الاستخبارات الروسية، وهي تهمة كفيلة بتغييبه في جحور السجون إلى أن يموت، لكنّه استمرّ في طريقه، ثم انتقده معاصروه لتهوره أو لغرابة أسلوبه أو لضعف حجته، لكنّه لم يتراجع. راهنَ باسمه وسمعته ومستقبله كلّه من أجل قضية آمن بعدالتها. والسؤال: أيّ الرجلين أحق بلقب المواطن الصالح؟ ** ** ** عن دور المثقف.. يقول فولتير: "أن تمسك بالقلم؛ هو أن تكون في حالة حرب". تنبيه: استشهادي بمقولة فولتير لا يعني أنّني مواطن فرنسي أو فيلسوفٌ تنويريّ أو أنني سأنضمّ إلى منظمة ماسونية قبل أن أموت بشهر!