الحياة - دولي نتعرض نحن العاملين في صحف وقنوات إعلام خليجية، وتحديداً سعودية، الى حملات تشهير وتخوين عامة وخاصة، فيما يتعرض عملنا لتشريح دقيق ليس لمضمونه السياسي أو من منطلق مهني وإنما لاعتباره مجرد صدى لقرارات الجهات التي تملك مؤسساتنا أو تموّلها. والواقع أن تلك الحملات وأصحابها الذين تتراوح مروحتهم بين زملاء مهنة «مفترضين»، وسياسيين وحتى اصدقاء وأقرباء تلتقيهم في ندوات او لقاءات عامة أو حتى من خارج الاطار العملي، يقتنصون فرصة خلاف حول قضية عامة تبدأ اليوم غالباً بالموقف من الثورة السورية لتخرق منها تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، فيحرفون النقاش عن وجهته ويهبطون به الى سوية متدنية من المساجلة الشخصية التي نادراً ما تخرج منها منتصراً. هكذا، تتلمس وأنت في جلسة ما، بداية صعود النبرة ضدك كصحافي في اعلام «البترودولار»، على ما يطيب لهؤلاء وصفنا، بأن يتحول الحديث اليك من صيغة المفرد الى صيغة الجمع. تلك أول المؤشرات التي تنفيك كشخص، فرد، قد يقع معه خلاف في وجهات النظر يتوجب مناقشته فيها، لتتحول فجأة ورغماً عنك الى ممثل ل الجماعة/ المؤسسة/ الجهة الممولة. وهذا الانتقال الذي يحملك لغوياً من «انت» الى «انتم»، انذار أولي بأن ما سيلي لن يرضي خاطرك، فتتخذ لا شعورياً وضعية المتلقي السلبي، الذي يردد في رأسه سيمفونية الاتهامات الممجوجة والمعروفة سلفاً حتى اذا فات مهاجمَك تفصيلٌ بتّ قادراً على تذكيره به. لكن تلك النقلة اللغوية الشكلية ربما، تترجم واقعاً في وثبة تلقائية من جانبك تضعك في موقع دفاعي كمن فُرض عليه الإقرار بتلك الاتهامات والانطلاق منها. وعوضاً عن دحضها من أساسها، تروح تجترح الحجج والقرائن، السياسي منها وغير السياسي، لتثبت موقفك ووجهة نظرك من المسألة قيد الخلاف، فيما كل ذلك قشرة هشة لتهمة واضحة ومحددة. أنت مجرد ببغاء تملى عليه مواقفه ويردد في كتاباته سياسات ممول الوسيلة الاعلامية. وعليه تبدأ لائحة الاتهام ب «أنتم» - على سبيل المثال لا الحصر - تدعمون المتطرفين في سورية ضد نظام علماني، وتؤيدون ظواهر متشددة مثل الشيخ احمد الأسير في لبنان ضد خط «المقاومة»، وتنتقدون سياسات إيران والاوضاع الاجتماعية فيها وتصمتون عن أمور كثيرة تحدث في بلدان الخليج... الخ. أما الذروة فالتعيير (او ما يعتبر تعييراً) بمصدر الرواتب وما يترافق معها من تهم «الاسترزاق» ويعنى بها «الاستزلام». وكل ما سبق وغيره الكثير لا يعدو كونه «خدمة أجندات خارجية». والحال أن تلك اللغة التي دخلت المجالس الخاصة مستقاة من حيّز عام، اعلامي وسياسي كرّس هذه القيم والمعايير فمنحها بعداً «اخلاقياً» وسلطة معنوية في تقويم الآخر والحكم عليه بما يجيز قذف أي وصف بحقه. وتم ذلك عبر آلة اعلامية، رسمية و «أهلية»، بدأت بمدونات تتخذ لنفسها صفة «مواقع إخبارية» وأضفت على نفسها صدقية بأن زعمت أنها «اسرائيلية»، هدفها التشهير الفضائحي بالاشخاص بسبب مواقفهم السياسية. وامتد ذلك السلوك «التشبيحي» الى قنوات تلفزيونية وصحف وكتّاب تفرغوا لتلك المهمة. ومناسبة فتح هذا الملف الشخصي والمهني في آن واحد، تأتي بعد سلسلة أحداث متتالية في لبنان منها مثلاً الخلاف المحتدم حول شخص رئيس الجمهورية، والمواقف المخجلة من اللاجئين السوريين على خلفية تأييد الثورة أو عدمه، اضافة الى خضة تعرضت لها الساحة الاعلامية ارتبطت بملاحقة اعلاميين لدى المحكمة الدولية من جهة وتهديد صريح لصحافية مناوئة ل «حزب الله» من جهة أخرى، وغير ذلك مما فاض بنا ويجعلنا مضطرين الى إمساك الثور من قرنيه ومواجهة هذه التهم بما تيسر عوضاً عن تدوير زواياها. حسناً إذاً. نحن نعمل في وسائل اعلام تمولها عائدات النفط الخليجي، وعليه فإن كل ما يصدر عنا هو بالضرورة متجانس ومتطابق مع سياسات مصادر التمويل ويعبّر عنها. بداية، ربما يكون مفيداً استعراض ما يدعو اليه زملاء كثيرون لبنانيون وغير لبنانيين عبر كتاباتهم من قيم المساواة بين الجنسين والديموقراطية ونبذ التطرف وغير ذلك مما ليس مستمداً من قواميس الاصالة والتقاليد، وإنما من «الغرب» الذي لا ينفك يتآمر علينا عبر تحالفات يعقدها في منطقتنا، وفق تلك السرديات، علماً أننا إذ نأخذ بقيمه «التقدمية» والتحررية، وندعو اليها، نُتهم بالتواطؤ على «تغريب» مجتمعاتنا ثقافياً، وتعزيز سلطة هذا الغرب علينا. وفي الواقع هناك شقان لهذه المسألة. أولاً قدرتنا كصحافيين على تناول قضايا الخليج العربي وخصوصاً السعودية في سياق كتاباتنا، وثانياً تطابق مواقفنا (كأفراد) أو الخط التحريري (كمؤسسة) مع سياسات الجهة الممولة. قد تكون هناك هوامش تضيق علينا ويصعب علينا التطرق اليها كما نطمح، لكن تلك الهوامش نفسها اتسعت أيضاً أخيراً بأن فتحت منبراً لقضايا ومواضيع كانت تعتبر «تابو» منذ سنوات قليلة فحسب. وهنا يكمن الفارق الدقيق بين ألا يتاح لك التعبير عن كل ما تفكر فيه، أو أن يطلب منك الدفاع عما لست مقتنعاً به. ومن الأمثلة السريعة التي يمكن استحضارها، مراقبة الموقف السعودي الرسمي من أحداث مصر، ومراجعة المقالات والتقارير الإخبارية التي نشرت على هذه الصفحات تحديداً وتتعارض كلياً مع ذلك الموقف. والأمر سيان بالنسبة الى الحالة اللبنانية في أشد لحظات الانقسام الداخلي بين فريقي 14 و8 آذار. ففي حين كان الموقف السعودي داعماً لطرف بشكل صريح وغير موارب، أفردت مساحة كاملة للطرف الآخر، أول من استفاد منها الضباط الاربعة الذين أوقفوا في ملف اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. والحالة تنسحب على الملف السوري، حيث الانحياز السياسي الكامل للثورة، فيما المادة الصحافية تقف على مسافة منها جعلتها أيضاً في موقع انتقادات كثيرة. ولا يخلو الارشيف من أمثلة ليس الحين لاستعراضها، ولا الهدف منها الدفاع عن أحد. فما المطلوب إذاً؟ ولماذا يطلب منا لإثبات مهنيتنا ووطنيتنا ما لا يطلب من غيرنا؟ هل شاهدنا على منابركم تقريراً تلفزيونياً واحداً يعتمد اللغة التهكمية والساخرة تجاه ايران وسياساتها في المنطقة وحلفائها السياسيين والعسكريين والاعلاميين؟ هل قرأنا مرة انتقاداً واضحاً وصريحاً لأمين عام «حزب الله» شخصياً، أم أن الأمين العام لا يخطئ؟ من يأخذ علينا أننا لم نشهر راية «تحرر المرأة السعودية»، لم يفاجئنا يوماً برفضه فرض الشادور الايراني وجملة قوانين مطبقة في مناطق كاملة لم تضعها الدولة اللبنانية بل سلطات الامر الواقع. هذا ولم نذكر «الانشقاقات» التي شهدتها وسائل الاعلام تلك من صحافيين ضاقوا بها وضاقت بهم، لا لشيء سوى لخلاف في الرأي. أما الكم الهائل من الشكاوى فتسمعه خارج غرف التحرير من زملاء كثيرين بقوا في أعمالهم وكتموا اصواتهم المخالفة لسياسات التحرير والتمويل ريثما يتيسر لهم الرحيل. ببساطة، نحن لسنا ناطقين اعلاميين باسم الحكومات ولا ممثلين لوزارات الخارجية فيها ولا حتى مواطنين او ناخبين في تلك البلدان لنتنطح لتغييرها أو الدفاع عنها، ويُحسب لمؤسساتنا أنها لم تطلب منا ذلك يوماً. نحن صحافيون نعمل ضمن منظومة كاملة من الشروط والظروف التي لا يتوقف تغييرها على شجاعتنا الفردية، ويكفينا اننا لم نستعمل يوماً سلاح التشهير أو التهديد أو الاستقواء بسلطة الاحزاب المسلحة لمجابهة خصم سياسي. أما رواتبنا التي يدرّها علينا «البترودولار» فهي ما نتقاضاه مقابل عملنا لا مواقفنا، علماً انه سبق لوسائل إعلام لبنانية مكرسة، وأخرى خطت خطاها، وفتحت علينا اليوم باب هذا النقاش، أن قامت وما زالت على مال آبار ضُخ ذات يوم من ليبيا القذافي. * كاتبة وصحافيّة من أسرة «الحياة»