ايلاف اللندنية ما يبث مؤخراً من أخبار عن تطورات داخلية تتعلق بمؤسسات الحكم في عدد من دول الخليج العربية أمر يثير الاستغراب ويدعو للقلق. لا نتحدث هنا عن مجرد شائعات سريعاً ما تتلاشى، بل عن أحاديث متواترة تتعلق باستقرار هذه المؤسسات. فالرأي العام الخليجي مشغول هذه الأيام بمتابعة أخبار وسماع قصص عن تسريبات وأشرطة ولقاءات سرية جميعها تتعلق بترتيبات مفترضة للحكم أطرافها أفراد من الأسر الحاكمة وشخصيات سياسية نافدة وبعضها لها امتدادات إقليمية وربما دولية. ردة الفعل الأولى قد تكون تجاهل هذه التسريبات واعتبارها مجرد إشاعات تهدف إلى خلق شعور بعدم الاستقرار في دول الخليج. ولاشك أن هذا الموقف مبرر ومعقول؛ بالنظر إلى العلاقة الشائكة بين دول الخليج ومحيطها الإقليمي التي تجعلها عرضة لحملات تشكك في استقراراها وتماسك أنظمتها الحاكمة. من جانب آخر يجب أن لا نلوم ذلك المواطن الخليجي الذي توقف أمام هذه التسريبات، وانشغل بها وعبَر عن قلقه تجاهها؛ فهي تمس أهم ركن للاستقرار في بلاده والمتمثل في مؤسسة الحكم. بل إن بقاء الدولة مناط باستقرار هذه المؤسسة بالنظر إلى العلاقة العضوية بين الاثنين والتي أفرزها التطور التاريخي لهذه الدول. إذاً قلق المواطن في هذه الدولة مبرر ومشروع، ولن يكفي لطمأنته القول بأن الأحاديث والتسريبات مجرد إشاعات مغرضة. ولكن وبغض النظر عن حقيقة هذه التسريبات ومصداقيتها فهي تبقى مزعجة لسببين مهمين على الأقل: (أولا) أن كافة الدراسات التي أجريت في الماضي والحاضر عن مهددات أمن دول الخليج العربي كانت تحصرها في مطامع خارجية إقليمية أو دولية، ومؤخراً بدأ الحديث عن ظهور مهددات داخلية تتمثل في: خلل التركيبة السكانية وارتفاع معدلات البطالة وظاهرة التطرف. ولم تتناول أي دراسة أو تقرير- حسب علمي- الخلاف داخل مؤسسات الحكم كمصدر محتمل لتهديد الأمن والاستقرار، والسبب في ذلك يعود إلى قناعة راسخة بين المختصين والرأي العام الخليجي إجمالا أن مثل هذه الخلافات- إن وجدت أصلاً- فهي ليست سوى تباين في وجهات النظر حول سياسات عامة، ولا يمكن أن ترقى إلى خلافات تهدد تماسك مؤسسة الحكم. كان ولا يزال هناك قناعة بأن الأسر الحاكمة في الخليج تمتلك من الحكمة والخبرة ما يحصنها من تطور أي تباين في الرأي بين أفراد مؤسسات الحكم إلى حالة من الانقسام الداخلي. لذلك عاش مواطني الخليج في طمأنينة وشعور بالأمن والاستقرار عززهما قناعة بأن العوامل الداخلية المهددة للأمن والتي أشرنا إليها أعلاه لم تصل إلى مستوى يجعلها مسببات لاضطراب سياسي لا قدر الله. (ثانياً) جاء الربيع العربي وأحدث تغيرات سياسية وأمنية جذرية في عدد من الدول العربية، لكنه مر على دول الخليج العربي بسلام مقارنة بما حدث في جواره. وباستثناء حالات مؤقتة ومحصورة، لم تنتفض شعوب الخليج العربي في احتجاجات شعبية واسعة كما شهدنا في بقية الدول العربية. وبغض النظر عن أسباب هذا الهدوء في المشهد السياسي الخليجي خلال فترة الاضطراب العربي؛ وهل هي نتيجة لضمانات الدولة الريعية أو بسبب الثقافة السياسية المحافظة للغالبية من المواطنين، فإن هؤلاء يشعرون أن لهم حق على أركان مؤسسات الحكم أن تقابل "دعمهم السياسي" بطمأنتهم بأن خلافاتهم الداخلية لن تتطور وتصبح مصدر تهديد لاستقرار دولهم. وتبقى الضمانة الأكيدة للمحافظة على الاستقرار السياسي بالطبع في التحول الكامل نحو نظام المؤسسات وسيادة القانون بعيداً عن اجتهادات الأفراد؛ فلم يعد مناسباً تجاهل حتمية هذا الانتقال بالنظر إلى ما حققته مجتمعات الخليج من قفزات تنموية تستوجب تطوير آليات الحكم. لكن وفي الوقت الراهن على الأقل ومن أجل طمأنه الرأي العام فالمأمول من أركان مؤسسات الحكم المبادرة إلى معالجة أي خلل أو مظهر اختلاف يمكن أن يعطي مصداقية للتسريبات وجدل الأشرطة. *أستاذ العلوم السياسية جامعة الملك سعود