الشرق - السعودية قد لا يكونُ معنياً بقراءةِ الجزءِ الأولِ من المقال سوى الرقيب، فهو يتعاملُ مع الأشياءِ الغامضةِ على أنها توريةٌ قد تُخفي تحتها كثيراً من المعاني! عندها سيُضافُ هذا المقالُ إلى قائمةِ الممنوعِ من النشر، أو يكونُ مُقصصاً بما لا يسمحُ له بأن يطيرَ ولو على عُلوٍّ منخفض، فقدرنا في بعضِ الأحيان أن يكونَ واقعُنا استثنائياً يتطلب كتابةً استثنائية، كما أن بعضاً من الأشياءِ التي تواجهُنا تُخالُ من الخرافةِ وهي صدق! وحين نكتبها كما هي قد تُفهَمُ على غيرِ معناها، أما لو كتبناها بشكلٍ مباشرٍ فربما كان ضررُنا أكبرَ من نفعنا، وقد يصلُ المعنى بأدنى درجاتِه، لذا سأعترفُ وأمري إلى الله بأنَّ ورقةً نقديةً لعملةٍ خليجيةٍ مكتوبٌ عليها (إلى متى بدون!) وراء كتابةِ هذا المقال. من أصعبِ الأشياء أن تتحدثَ عن إنسانٍ وُلد ولم يعِش ومع ذلك سوف يموت، لأنك لا تدري أتتعاملُ معه على أساسِ أنه حي، فتتحدثُ عن آمالِه وأحلامِه وحقوقِه وواجباتِه، أم ميتٌ فتدعو له بالرحمةِ والمغفرة، فهو مواطنٌ بلا وطن، ومسافرٌ بلا هوية، ومتيمٌ بلا حبيب، أو هو ممن وقعوا في شراكِ الحبِ من طرفٍ واحد، وهذا النوعُ من الحبِ -على رأي بعضهم- هو من أقوى أنواعِ الحب، ليست فيه منافساتٌ، ولا مشاحناتٌ، ولا مشاجراتٌ، ولا إمكانية للفتور، ولا احتمال للملل، ولا أمل في الفراق. فكيف إذا كان هذا المحبوبُ وطناً! إنني لا أتحدثُ عن مجردِ إنسان، بقدر ما أنني أتحدثُ عن إنسانٍ مجرد، غير قادرٍ على التفريقِ بين طعمِ الحياةِ وطعمِ الممات، مادام لهما نفسُ المذاق، ولا مكانَ يشعرُ فيه بالمساواةِ سوى المقابر، فكلما نَسيَ أنه بشر أو شكَّ في ذلك -وما أكثر ما كان يشك- قَصَدَ أقربها إلى بيته، فرأى أنَّ قبورَ والديه وأجداده تتساوى مع غيرِها في كلِّ شيء، فطابت نفسُه وذهبت عنه هواجسُه، وعاد إلى الحياة، حتى إذا وجدَ نفسه خارج أسوارِ المقبرة، ورأى أضواءَ المدينةِ ضاقَ صدره وحزن قلبُه وسقطت دمعتُه وأظلمت عليه الدنيا من كلِّ أطرافها، وكلما انغمسَ في تفاصيلِ الحياةِ من حوله، أدركَ أنه ليس في انتظاره سوى التيهُ والفراغ، وشعرَ أنَّ الحياةَ ضيقةٌ حقيرةٌ مظلمةٌ كئيبةٌ، فانقلب هدوؤه اضطراباً، وأملُه يأساً، وإيمانُه ألماً وروعَة، وربما غمره الحزنُ كلياً فانتهى به إلى أقصاه حتى حسد أصحابَ القبورِ على أحوالهِم، وشعر أن قدرتَه على الحركةِ داخل أسوارِ المقبرةِ أوسع من خارجِها، فالتفت إلى الخلف ورأى القبورَ على مدِّ بصره، فابتسمت شفتاه، وحزن قلبُه، لأنه خشيَ أن يخسرَ الشيءَ الوحيدَ الموعودَ بامتلاكِه، ذلك الذي سيأتيه يوماً على آلةٍ حدباء محمولاً، وكم راودته نفسُه أن يُجهزَ لقبره شاهداً -من الآن- مكتوباً عليه: المغفور له بإذن الله: فلان بن فلان العمر: بدون تاريخ الوفاة = يوم الميلاد أعرفُ عزيزي القارئ أنك قد اكتأبت بمجردِ قراءتِك هذا المقال، ولعلك وددتَ لو أنك لم تقرأ، لكن لتعلم أنَّ ما تمر به ليس إلا شعوراً عابراً، ودقائق معدودة، بل لحظات لا تلبثُ أن تتناساها فتنساها، غير أني أردت تذكيرَك بأنَّ هناك أناساً يعيشون على حافةِ الحياةِ، ويعيشون هذه المشاعرَ بشكلٍ دائمٍ ويُسَاطُون بعذاباتِها كلَّ يوم، حتى أصبحت جزءاً من حياتِهم اليومية وذكرياتهم.. آه.. هل قلتُ ذكريات! وهل له ذكريات من يكون حاضره كماضيه كمستقبله، ويومه كغده كأمسه! فلحظاتُ السعادةِ التي يمرُّ بها الإنسانُ تستحيلُ عذاباً حين تُعَاشُ بأرقٍ وخوف، أو يحياها فلا يرى بعدها غيرَ الفراغ، وإنَّ من أصعب الأشياء على الإنسانِ أن يجدَ في كل نظرةٍ لأطفالِه عتباً ولوماً وانكساراً وضعفاً بسببه، فكلما كبروا صغرت أحلامُهم، وضاقت الدنيا في نظرهم، وعرفوا أنَّ وطنهم الذي يعيشون فيه ليس وطنَهم، وأنَّ الصورَ التي اعتادوا تعليقَها على قلوبِهم الصغيرةِ وتقبيلِها في كلِّ مناسبةٍ لا تخصُّهم، وأنَّ العلمَ الذي يُحيُّونه كل صباحٍ ليس علمَهم، فتكونُ صدمتُهم أشبه ما تكون بشابٍّ أُخبِرَ بأنَّه مولودٌ لأبٍ غيرِ شرعي، وأنَّه ليس أكثرَ من (لقيط)، عندها كل أحلامِه ستتلاشى، وكل أيامِه ستتوقف، وكل آمالِه ستنتحر!