المصري اليوم - القاهرة حين يخلع المشير السيسي بذلته العسكرية بكل أبهتها وسطوتها النفسية وإرثها الإيجابي في الوعي الجمعي المصري وبكل ما تستثيره من حنين لمعاني النصر والرجولة والشهادة و"الكرامة.. سيفاجأ الجميع بشكل الرجل في بذلة مدنية عادية، لن يبدو معها كأنه السيسي الذي يعرفونه! سيتعرفون على الطول الحقيقي للرجل (هل دققت في طول السيسي قبل ذلك؟)، ومقدار انحسار الشعر عن رأسه، ومقدار التجاعيد في وجهه، وستتوارى هيئته الرياضية الممشوقة التي تزيدها البذلة المموهة قوة وألقا، وستحس العين كما لو أن شيئا تبدل بالسيسي فجأة، كأن شيئا غريبا أصبح مفقودا بين عشية وضحاها! ثم لن يظهر السيسي وسط جنود الكلية الحربية أثناء تدريباتهم ولا في مناورات أي من الجيوش الميدانية ووسط جنودها الأشداء وقادتها الذين قدت ملامحهم من صخر. عودوا عيونكم على السيسي وسط مدنيين عاديين يرتدون بذلات غير مموهة ولا يعلقون النياشين، ويصففون شعورهم بعناية، وبعضهم ملامحه غضة وبشرته غير مدبوغة من الشمس وعيناه غير ثابتتان على نحو صقري حاد.. كل هذا سيفقده الكثير من بريقه المراسمي وإطلالته العسكرية الأنيقة المشحونة بخليط خلاب من القوة والحسم والبهاء. والأمر لا يتعلق بالسيسي فحسب، بل يعود أساسا لعملية التلقي الذهني في رأس الجمهور ولطبيعة فك الشفرات اللونية والحجمية في هيئات الآخرين، التي تعتمل في أدمغة الناس. وتزخر أدبيات السياسة الغربية بوقائع كثيرة مماثلة عن ساسة تم نصحهم بارتداء ألوان بعينها أو الابتعاد عن ألوان أخرى، لأن هذا اللون من شأنه أن يجعل الشخص يبدو مسنا شاحبا، أو شابا مفعما بالحيوية.. أو أن هذه المشية جامدة أكثر مما يجب أو أن هذه الطريقة في الحديثة متفلتة بعض الشيء. وتتعلق هذه الأدبيات الدعائية أكثر ما تكون بالرجال الذين جاءوا من خلفيات عسكرية، كالرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور الذي مدينوا عسكريته الفائقة بتوليته رئاسة جامعة كولومبيا، في فترة انتقالية بعد الحرب العالمية الثانية التي خاضها رئيسا لقوات الجيش الأمريكي، في محاولة لتنعيم خشونته وعسكريته، تمهيدا لطرحه رئيسا! على العكس تماما، خاض الخبراء تدريبات شاقة لأجل تعليم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كيلنتون كيف يؤدي التحية العسكرية أمام جنرالات الجيش، بدلا من صورته كشاب رقيع تهرب في مقتبل عمره من أداء الخدمة العسكرية. وفي نفس السياق ستجد الكثير من الجدل الدعائي حول واقعة ارتداء هيلاري كيلنتون لبلوزة حمراء مثيرة أثناء حملة ترشيحها في مواجهة أوباما في الانتخابات الأولية للحزب الديمقراطي لاختيار أحدهما مرشحا لمنصب الرئيس 2008، أو حول ارتداء مرشحة الرئاسة الفرنسية السابقة سيغولين رويال الملابس البيضاء ذات الطابع الأنثوي الملائكي في الوجدان الفرنسي. وإذ يراهن السيسي حتى الآن على مشروعه بالقضاء على الإخوان، مدعوما بتعبيرات بلاغية ناصرية النكهة، وبخطاب سياسي يحشر كلمات العزة والكرامة والحرية والشعب الأبي كل سطرين، وببعض الخيالات السياسية الأخرى المستوحاة من خطابات قومية سيطرت على المشهد السياسي في النصف الأول من القرن الماضي، فإن هذا كله سيبدو إرثا فقيرا، قياسا بمتطلبات الظرف الجديد الذي لن يستوعب مثل هذه الأساليب المحنطة من الدعاية. (حل الأزمة ليس في أن يكتب هيكل له خطابا!). عالم السياسة بتعقيداته الدعائية والإعلامية، سيفرض شروطا جديدة ربما غير مأخوذة في الحسبان، وربما سيجد المشير السيسي (أوفر المرشحين حظا) نفسه في عالم جديد عليه قبل أن يكوم جديدا علينا. وعسكرية الرجل لن تضيف له إلا بمقدار ما ستخصم منه. والإطلالة والزي والألوان المختارة (خارج إطار الكاكي والمموه) لن تكون أكثر من مجرد قشرة، تعكس أزمات أعمق.. فإدارة الجيوش بكفاءة وبتراتبية إصدار الأوامر وحسم وجزم تنفيذها، يفرق كثيرا عن إدارة دولة مهلهلة ينفذ المدنيون خططهم فيها وفقا لآرائهم واختلافاتهم! اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.