الشروق - القاهرة ضحكات شريرة متقطعة ستطلقها فى وسط حزنك وأساك، حين ترى خيبة أمل الذين قفزوا من مركب ثورة يناير لحظة اشتداد القصف الأمنى والإعلامى عليها، قبل أن يدركوا أن أسيادهم ما زالوا بحاجة إلى ثورة يناير حية ولو إلى حين، لأن الإجهاز عليها الآن سيصبح عبئا يعطل عملية إكمال السيطرة على البلاد، لذلك لا مانع من إبقائها محجوزة فى العناية المركزة، حتى يتم فرض واقع جديد يحمل إنجازات شعبية تجعل إعلان وفاتها مجرد تفاصيل لن تشغل بال أحد. قبل انتهاء مسرحية الاستفتاء ساد صمت رسمى مطبق ومتعمد على كل ما تعرضت له ثورة يناير من تشويه، لأن أصحاب السلطة كانوا يدركون أهمية ذلك فى اجتذاب وطمأنة تربيطات العشائر والعصبيات والمصالح الاقتصادية التى كانت تدعم الحزب الوطنى المبارك. أما الآن وبعد أن عبر الدستور بسلام، فقد كان لابد من توجيه رسالة للجميع بأن التشكيك فى ثورة يناير سيشكك بالضرورة فى قيادات المجلس العسكرى الذين تفاخروا دائما بحمايتها، وهو ما سيمنح الإخوان سلاحا سياسيا أقوى من سلاح الشرعية الفاسد، لذلك كان على الدولة أن تحتفل فى طقس دموى راقص بثورة يناير التى حماها الجيش وسرقها الإخوان وقتلوا شبابها الطاهر، وتم تصحيح مسارها فى ثورة يونيو التى حماها الجيش ولن يسمح بسرقتها أبدا أيا بلغ عدد من تسقطهم الداخلية قتلى وجرحى ومعتقلين، ولذلك ظهر فجأة الحديث عن دور الفريق السيسى فى دعم ثورة يناير، ونشرت صحيفة المصرى اليوم تصريحات منسوبة له بأنه لا عودة إلى ما قبل 25 يناير، وتحدثت عن اتصال جهات سيادية بعدد من القنوات الفضائية لتطلب التوقف عن حملات تشويه ثورة 25 يناير. للأسف يبدو أن قادة البلاد لم يدركوا بعد أن أحوالها المتردية تجاوزت فكرة تشويه يناير أو يونيو، فقد عادت السلطة فعليا إلى عهدة المؤسسة العسكرية منذ لحظة التفويض، وبات واضحا أن أغلبية الشعب لن تختار إلا رئيسا قادما منها أو مدعوما منها «عشان البلد تمشى»، المهم أن يدرك هذا الرئيس سواء كان السيسى أو من سيدعمه السيسى، أن البلد لن تمشى فعلا إلا إذا تغيرت طريقة مبارك فى إدارتها ببركة «ترزية قوانين على لواءات فى كل حتة على شوية مثقفين مبرراتية بعضهم أصحاب تاريخ مشرف، على بغبغانات إعلام من كل صنف، على سجون بتتملى، ودم فى الشوارع إن لزم الأمر، على تدفقات نقدية خليجية تسند لغاية ما يتحقق استقرار يضبط الاقتصاد»، لأن تكرار هذه الطريقة فى ظل احتقان اجتماعى خطير وتدهور اقتصادى مزرى وغليان شبابى مضطرم، سيجعل مصير مبارك بالنسبة لأى رئيس قادم مصيرا شديد الرفاهية والدلال. ما نلمسه حتى الآن أن المتنفذين فى أجهزة الأمن والإعلام ودوائر البيزنس، لم يفهموا بعد أن كراهيتهم لثورة يناير وانشغالهم بتشويهها لن يفيدهم فى شئ، لأن يناير لم تكن إلا نتيجة فرضها واقعا متأزما، وهو ما يجعلها أكبر من كارهيها ومن محبيها، ولذلك إذا أراد الرئيس الذى سيدعمونه النجاح، فعليه أن ينشغل وينشغلوا معه بصياغة سياسات جديدة لتغيير الواقع الذى كان سببا فى تفجير يناير، لأن ذلك وحده الذى سيحقق هدوءا فعليا فى الشارع، هدوءا مبعثه الشعور بالتغيير وليس الخوف من البطش، وإلا فإنهم سيزيدون مع كل قرار خاطئ من عدد الأفراد المستعدين لمواجهتهم فى الشارع، وهؤلاء سيكونون أصعب فى ضربهم من جماعة الإخوان التى لا يعمل أحد على مواصلة عزلها شعبيا مثلما يفعل قادتها كلما فتحوا أفواههم أو أصدروا بيانا لا يزيدهم إلا خبالا وتخبطا. لكن الحماقة ستظل دائما تعيى من يداويها، ولذلك لا يخفى المعادون لثورة يناير نشوتهم بما يظنونه نصرا حاسما حققوه على ثوارها، كنت سأتفهم نشوتهم لو كانوا قد نجحوا فى خلق ملامح لأى تغيير قادم ولو حتى على مستوى الخطاب الإعلامى والسياسى، أو قدموا أى أمارة تثبت أنهم سيحكمون مصر بفكر مختلف وخيال جديد، لكنهم حتى الآن لم يفعلوا شيئا سوى إعادة إنتاج رخيصة الخيال غنية الدم لمأساة حكم الفرد التى ما زالت مصر تدفع ثمنها، وهو ما ذكرنى بما كتبه المفكر الفرنسى جوستاف لوبون مع أنه لم يكن من محبى الثورات الشعبية عن حماقة أصحاب المصالح الذين يحاولون ترويض نهر الثورة دون أن يدركوا أن «الأنهار لا تعود إلى منابعها»، وأن السيطرة على نفسية وعقول الجماهير ستكون أسهل بصناعة واقع جديد يستوعب نهر الغضب الذى أنتج الثورة. فى ظل مناخ فاشى هيستيرى لا يوجد أمل فى أن تقنع من حولك بأن كل ما يحدث يؤكد أن السلطة القمعية تصنع لنفسها كل يوم بغبائها مأزقا جديدا وعدوا شرسا، لأن البعض سيظنك متفائلا والعياذ بالله، وسيصرخ فى وجهك إن كان مهذبا صرخة محمود عبدالعزيز الشهيرة «يا عم باقولك أنا مش أنا.. صدق العليل ولا تصدق التحاليل»، لذلك لا تحاول عندما ينعى لك ثائر ثورته أن تواسيه مثلا بعبارة المفكرة روزا لوكسمبورج الرائعة: «الثورة هى شكل الحرب الوحيد الذى لا يأتى النصر فيه إلا عبر سلسلة من الهزائم»، فكثيرا ما يكون الشعور باليأس أكثر راحة للنفس البشرية من تحفيزها على الصمود حتى يتحقق نصر غير مضمون الموعد. لا بأس، ستتبدد حتما سكرة نصر راكبى السلطة الموهومين، ليجدوا أنفسهم مطالبين بتقديم حلول لمشاكل الواقع التى تسببت أصلا فى اندلاع الثورة، وعندها لن تنفعهم رطرطة الكلام عن المؤامرات الدولية والثوار الملاعين، لأن الناس يمكن أن تأكل الأونطة، لكنها لا يمكن أن تعيش عليها إلى الأبد، وحتى يحدث ذلك سيبقى ما يشعر به أى ثائر من مشاعر المرارة والحزن أمرا يخصه وحده، وربما حمل له بعض العزاء إدراكه أن نهر الثورة لم تفجره إلا مطالب شعبية، ولذلك، مهما تم تحويله ليصب فى مصلحة مؤسسات الدولة الفاسدة، أو وضعوا سدودا قمعية لتمنع تدفقه، فإن الوسيلة الوحيدة للسيطرة على نهر الثورة، ستكون بإيقاف الأسباب التى فجرته منذ البداية، والتى يمكن أيضا أن تجدد ثورته فى أى وقت. فى البدء كانت الحكاية وستظل: «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية».