المصري اليوم - القاهرة حين أسترجع مشهد فضة المعداوي وأتباعها بينما يعبثون بمقتنيات فيللا مفيد أبوالغار، أحس أن المشهد ينقصه شيء ما ضروري جدًا..لعله كونشيرتو «تسلم الأيادي» يصدح في الخلفية بينما يتلاعبون بالفازات الثمينة والأغراض القيمة. كانت فيللا أبوالغار في مسلسل «الراية البيضا» للسيناريست الأهم في تاريخ مصر، أسامة أنور عكاشة، عليه رحمة الله، ترمز بوضوح إلى مصر في حقبة ما بعد الانفتاح. الفيللا التي يملكها الديبلوماسي المثقف الوطني أبًا عن جد، بينما تحاول تاجرة كونت ثرواتها المشبوهة في حقبة الانفتاح أن تسرقها منه عنوة، بعدما فشلت في إقناعه ببيعها له. يتكاتف مثقفو المسلسل العذب - على مرارته - في الحفاظ على الفيللا وقيمتها التاريخية، ويحميها المتعلمون الذين ينضمون لصف أبي الغار، من محاولات المعلمة فضة وأتباعها من الجهلة ومحدثي الثروات لهدمها. عكس المسلسل حيرة وانكسار المثقف الناصري حيال محدث الثروة الساداتي، وكانت الفيللا / مصر، محل الصراع بين الفريقين، فريق يحترم عراقتها وتحفها وفازاتها ويحاول الحفاظ عليها (كما هي)، وفريق آخر ربما يريد إعادة «تبليطها» بالسيراميك وإعادة تغيير ملامحها وبنيانها من جذرها اجتثاثًا. نفس الهاجس كان يتردد على «ذات» بطلة رواية صنع الله إبراهيم التي كانت تراودها الكوابيس في نومها حول السادات وعبدالناصر، بينما أحدهما يكسر بمطرقة حديدية جدران مطبخها الذي صممته في عهد الآخر وبروح عصره!. في التسعينيات وفي مسلسل «أرابيسك»، حافظ عكاشة على رمزية مصر (كبناية) في أعماله، فبدت لنا في فيللا برهان صدقي (لاحظ الاسم)، الأكاديمي المصري القادم من الخارج الذي يريد أن يبني له ابن البلد حسن أرابيسك، بناية يعكس كل جزء منها حقبة من تاريخ مصر.. بهو فرعوني ومدخل روماني وصالة إسلامية ملأى بنقوش الأرابيسك. تنهار الفيللا مع محاولات التشييد التي لا تحمل روحًا موحدة، فيخطب بطل المسلسل حسن أرابيسك في سجنه خطبة عصماء عن مصر والفيللا، وكيف أن مصر هوية واحدة، أو كيف أن محاولة زج وحشر الهويات جميعًا في بنيان واحد كفيلة بهدمه، لعدم التناسق واستحالة التجاور بين أكثر من هوية. ربما كانت الفيللا حينها رمزًا للمشروع المباركي الذي كان عديم الملامح، بليد التوجه، أصم القسمات. واليوم مع الحقبة «السيسية» - نسبة لمنشئها الفريق عبدالفتاح السيسي- أحاول تخيل كيف كانت الشاكلة البنيانية التي سيسوقها أسامة أنور عكاشة في أحد أعماله للتعبير عن طبيعة المرحلة، برمزية البناء المفرطة التي يستخدمها ببراعة. كيف بالأساس، لم تعد مصر فيللا، وأضحت شيئًا ما غريبًا في تكوينه، لا هو فيللا مفيد أبوالغار ذات السمت البهي الوقور الخلاب، ولا هي فيللا برهان صدقي المختلة معماريًا، رغم جمال كل جزء منها على حدة (قبل أن تنهار). لقد جاءت الموافقة على الدستور بنسبة 98.1% مخالفة للطبائع الإنسانية ولنسب التوافق السياسي والمجتمعي على الدساتير والتشريعات..جاءت نكاية بالغة الوضوح في الإخوان ومن حالفهم.. جاءت لتعلن رسميًا حفل الخلاص من الإخوان واغتيالهم شعبيًا على نحو تام أتم. حشود من الفلول مع فصائل من يناير مع جحافل 30 يونيو بالإضافة لفرقاء تاريخيين، اجتمعوا مع السيسي أو له، على كلمة رجل واحد، يقسمون بها ظهر التنظيم الغبي البغيض. الطريف هو التئام هؤلاء جميعًا وتوحدهم مؤقتًا وتنحية خلافاتهم وسفسطاتهم وجراحهم جانبًا ثم توحدهم تحت راية واحدة، هي النكاية والعقاب!. السيسي الذي يقال إنه يشبه عبدالناصر في كثير مما فعله، يبدو سلوكه - بالأساس- وثيق الصلة بالسادات!. حين خرج السيسي في مارس 2013 قائلًا إن الجيش لن يتدخل في السياسة وإلا ستعود البلد للوراء 40 سنة، كان يستعد للإجهاز السياسي الأهم في تاريخ البلاد بدبابات الجيش. وحين تبدو نوايا الرجل مجهولة دومًا وحين يبدو ميالًا للمباغتة، وحين يبدو عاطفيًا أميل للأداء التمثيلي- وإن كان صادقًا- فإنه يسير على خطى السادات. لاحظ أن الرجل حين حكى عن رؤاه، قابل السادات في المنام ولم يقابل عبدالناصر، ليتبادل هو و«الرئيس المؤمن» جزمهما الغيبي بأن كلًا منهما يعرف أنه كان سيحكم مصر قبل أن يحكم.. والدلالة النفسية جلية هنا. وإذا كان السيسي يتوسل له فلول مبارك بالعودة، ويشبهه محبو عبدالناصر بعبدالناصر، ويسير هو نفسه تكتيكيًا على نحو ما على خطى السادات، فإن أسامة أنور عكاشة لابد واقعٌ في مأزق ما إذا أراد أن يتصور فيللا مصر الآن!. الحاصل أن خريطة مصر السياسية والنفسية قد أطيح بالجزء المستقر والثابت تاريخيًا فيها من طبيعة التحالفات والخصومات، لنجد أنفسنا أمام حقائق جديدة ماحقة، لا يستطيع أحد أن يجابهها منفردًا. تحولت «تسلم الأيادي» من مجرد أغنية رديئة بشعة إلى نشيد إحدى القبائل البدائية التي تردده وهي تقدم القرابين للآلهة، أحس كلما سمعتها أن حشود «المواطنين الشرفاء» ستنطلق من ناحية ما لتفتك بإخواني ما، ثم يرقصون حول جثمانه الهامد على أنغامها المزعجة. لم تكن المعلمة فضة المعداوي شريرة شرًا مطلقة، بل كان لها وجهة نظر ما جمالية حتى وإن كانت بشعة، وكان لمفيد أبوالغار منطقه المتماسك وحسه المرهف، وكان لبرهان صدقي رغبته الجمالية الخالصة حتى وإن جافت المنطق.. وبالأكيد فإن السيسي اليوم بين مقاولي البناء والهدد لا يعرف مثلنا هو الآخر ما الذي يريد استكمال بنائه أو ما الذي يريد هدمه. معنا معاول كثيرة، لكن أحدنا لا يملك خطة واضحة أو قرارًا حاسمًا. ولا يبدو أن البنيان - إن انبنى- سيكون شبيهًا بأي بنيان سبق.. وأخشى ما أخشاه أن يتجاور فيه ما لا يجوز تجاوره، فيلحق بفيللا برهان صدقي.. أطلالًا بددًا!.