توفي مانديلا وحيت بوفاته سيرته التي أذهلت وألهمت العالم من أدناه إلى أقصاه، وليس العالم العربي بدعا من هذا العالم خاصة أن شيئا ما يربط هذه الأسطورة التاريخية السمراء بالثورات العربية، الثورتان العربية والجنوب أفريقية وعلى الرغم من الفروق في البصمة الثورية فإنهما يتفقان في أنهما واجهتا ظلما واستبدادا ودولة عميقة وفلولا وتخوينا ومحاكمات ظالمة وإعلاما منحازا واقتصادا يمسك بمفاصله رجال العهود السابقة وتدخلات إقليمية ودولية، المؤسف أن الثورات العربية درست سيرة مانديلا وذاكرتها جيدا لكنها حين قدمت الإجابة في امتحان الثورات رسبت فلم تتسام قيادات الثورات العربية فوق الجاذبية الحزبية والقبلية والفكرية كما فعل مانديلا. خمس ثورات عربية ثارت ضد الظلم والاستبداد صاحبها مخاض كبير وعسير لكنها عجزت أن تقدم أيقونة ثورية تقود الحراك الجماهيري إلى بر الأمان كما فعل مخاض جنوب أفريقيا حين ولد هذا الأسطورة الذي أثبت بالحقائق والأرقام أن السياسة ليست دوما «عملا قذرا» يضحي بالمثل والقيم والمبادئ على الأعتاب المقدسة لمعبد المصالح. مذهل هذا المانديلا، ففي احتفال أقامه أخيرا بمناسبة مرور 20 سنة على إطلاق سراحه، وجه الدعوة لسجانه الذي غلق عليه الأبواب وكبله بالأصفاد في السجن 27 حسوما ليحضر هذه المناسبة. التسامح المانديلاوي قوة ناعمة، لكنها نووية دك بها عروش أعدائه وخصومه، وأجبر العالم الغربي على احترامه وتبجيله وتقديره على الرغم من أن مصالحه الاقتصادية العظمى كانت آنذاك مع النظام العنصري الجنوب أفريقي. لم يغير مانديلا من مبادئه التي تبناها أيام النضال السلمي وبعد تحرر جنوب أفريقيا من ربقة النظام العنصري الأبيض، واستطاع مانديلا أن يكسب الرهان؛ فلم تشهد جنوب أفريقيا تيار الدماء الذي كان يلوح به البيض ويخوف به العالم الغربي، كذلك لم تشهد جنوب أفريقيا الانتقام الجماعي لمئات الآلاف من ضحايا الحكم العنصري. لقد أثبت مانديلا أن «التسامح» الذي دعا إليه من البداية لم يكن مجرد شعار مؤقت، بل كان منهجا تبناه، واستطاع من خلال زعامته الشعبية أن يحد به الرغبة في الانتقام التي كان يمكن فهم أسبابها لو انتقلت إلى أرض الواقع. هذه القيم العظيمة التي صدرت من عظماء التاريخ مثل التسامح والعفو عند المقدرة هي أيضا قيم إسلامية عظيمة، لكن المؤسف أن هذه القيم صارت حكرا على الأرفف نستمتع بذكرها وننتشي بترديدها، كتعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التسامحي مع اليهود والنصارى، وكالعهدة العمرية الشهيرة التي أرست أعظم مبادئ حقوق الإنسان، وكتعامل صلاح الدين الأيوبي مع أعدائه الصليبيين، وغيرها من الوقائع التي يكتنز بها ديننا وموروثنا وتاريخنا المجيد، لكن حين تعصف بنا طول العالم العربي وعرضه عاصفة تتطلب إنزال مثل هذه القيم النبيلة نجد أنفسنا تلقائيا وقد تلبسنا روح الانتقام والتشفي والمعاملة بالقسوة متترسين بنصوص نتعسف في إنزالها على هذه العواصف وننسى أو نتناسى مئات النصوص والآثار الإسلامية التي تجعل من التسامح والعفو أساسا في التعامل، والشدة والغلظة والانتقام استثناء. فالشجاع والوطني في عرف الثورات العربية هو الذي تتسم لغته بالتحريض أو الدعوة إلى العنف أو إلى التشديد والقسوة في التعامل مع الغير أو التضييق عليهم، وأما التسامح الذي نشيد به حين يصدر من غيرنا، فإنه يصبح تمييعا وانبطاحا إذا تعاملنا به مع غيرنا، ولو أننا فكرنا بتمعن في شأن التسامح لوجدناه السلاح الأكثر فعالية في التأثير على الخصم، تماما كما فعل مانديلا الذي قوض بتسامحه مع خصومه أعتى عروش العنصرية في التاريخ.