الشرق -السعودية لكي نفهم الواقع يجب أن نمسك الخيط من أوله، إذ إنه حتما سيقودنا إلى تفسير حقيقي لأحداث تمر بنا، نستشعرها غامضة وهي في حقيقتها واضحة جلية، ومن الأشياء التي نظنها غامضة تلك العلاقة الغريبة بين الإخوان وأمريكا، متى نشأت وكيف؟ ولماذا راهنت الإدارة الأمريكية على تلك الجماعة فآزرتها ودعمتها وما زالت تقود حرباً سياسية من أجلها، هل يستطيع أحد أن يقنعنا أن أمريكا تبحث عن شرعية حاكم، أو حق شعب؟! قد لا يبدو مناسباً في هذا المقال أن أتحدث عن السنوات الأخيرة أو الأيام الأخيرة دون أن أمسك ببداية العلاقة ومنبتها، فمن خلالها نستطيع قراءة الخريطة، ومعرفة ماذا تريد أمريكا من منطقتنا. كان الخيط من أوله مع بريطانيا العظمى ومخابراتها، فقد كانت وقتها هي القوة العظمى في العالم، صحيح كانت قوة آفلة كادت شمسها أن تغيب، وصحيح أن أمريكا الفتية كانت على وشك أن تتأهب لأخذ مكانها، إلا أن هذا لا ينفي أن الأسد البريطاني العجوز ما زال إلى الآن شريكا رئيسيا لأمريكا، ويكفي أن البداية كانت منه هو، فذات يوم من الأيام الأولى من عام 1920، طرأت فكرة على خاطر «ألفرد ملنر» مدير المستعمرات البريطاني، كان هذا الرجل شخصية محورية في بريطانيا، وكان قد عمل في مصر في نهاية القرن التاسع عشر مساعدا لوزير المالية الذي كان وقتها إنجليزيا، استمر ملنر في مصر أربع سنوات كاملة أصبح خلالها عارفا بخريطة مصر الجغرافية والسياسية، وحين قامت الثورة المصرية الأولى عام 1919 تُطالب بالاستقلال، رأت إنجلترا أن ترسل هذا الرجل الذي كانت له مكانة سياسية كبيرة هناك، إلى مصر على رأس وفد إنجليزي كي يدرس أسباب الثورة وكيفية تجنبها، هبط ملنر وهو يرتدي بزته الإنجليزية الأنيقة من سفينته إلى أرض مصر كي يقوم بمهمته هذه في ديسمبر من عام 1919، وظل بها إلى آخر مارس 1920، تقابل خلالها مع عدد محدود من القيادات التنفيذية والسياسية في مصر كان منهم عدلي يكن باشا رئيس الوزراء، إذ إن سعد زغلول أرسل من منفاه إلى كل القيادات السياسية في مصر طالبا منها أن تقاطع لجنة ملنر، المقاطعة هي الحل، يجب أن ينقطع كل الشعب عن مقابلة هذا الرجل حتى نُجبر الإنجليز على إعادة سعد زغلول من منفاه، لا تفاوض إلا مع سعد، كل من كان يقابله ملنر كان يقول له: اسأل سعد، سعد هو من يمثلنا، وحين ظن بعض الساسة والمؤرخين أن لجنة ملنر قد باءت بالفشل الذريع، كان ملنر قد حقق نجاحا مدويا إذ كان المثل القائل «كل الطرق تؤدى إلى روما» هو خط سيره في مصر. حينما كان ملنر في مصر جلس مع اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني، وتداولا، وتشعب بهما الحديث، ويبدو أن الفكرة اختمرت في ذهنيهما آنذاك «فليكن لهما الاستقلال الذي يريدون» ولكننا سنخفي أمرا! عاد ملنر إلى بريطانيا، وتقابل مع رئيس الوزراء «ديفيد لويد جورج» وأفضى إليه بما حدث له في مصر من إعراض، وأسر له بالفكرة التي اعتملت في ذهنه بعدما التقى مع «اللنبي» وعندما خرج من مقابلة رئيس الوزراء أجرت معه جريدة «مانشستر جارديان» حوارا قصيرا، قال فيه: «إنه لا يمانع في منح مصر الاستقلال بشرط عدم تعريض مصالح بريطانيا للخطر» ثم أضاف: «إن اللورد اللنبي وافقني على رأيي حتى ولو كنا سنمنح مصر استقلالا كاملا فإن هذا لا يضيرنا في شيء». سألته الصحيفة: «وما هي خطتكم في الحفاظ على مصالح بريطانيا؟» أجاب: «تكمن خطورة المصريين في وحدتهم، ولذلك كانت ثورة سعد زغلول ورفاقه قوية لأن مصر أصبحت الكل في واحد، هم يريدون بناء دولة حديثة لها استقلال كامل، وليكن ولكننا لن ندعهم يكررون الكل في واحد». قالت الصحيفة: «كيف؟» رد ملنر: «هناك من قال إن الدين أفيون، ولكنني أؤكد أن الدين قنبلة». الصحيفة: «لم نفهم شيئا من إجابتك سيدي!» ملنر: «ملكوت الله في السماء هكذا نعرف، وملكوت الناس في الأرض، فلننزل لهم الرب ليحكم الأرض، ولكنه سيفرقهم.» الصحيفة: «هذا كلام فلسفي لكننا لا نفهم منه شيئا، كيف ستنزل لهم الرب من السماء؟ وماذا سيفعل لهم الرب؟ وهل الرب يعمل لمصلحة الملك؟» ملنر: «لا أستطيع الإيضاح أكثر من ذلك ولكن ليعلم الجميع أن الرب يعمل لمصلحة بريطانيا وسيكون له دور في استمرار وصايتنا على مصر حتى ولو حصلت على استقلال كامل». انتهى كلام ألفرد ملنر لصحيفة مانشستر جارديان، وقد أخرج صحفي اسمه «جورج هيلر» هذا الحوار في كتاب طبعه في 1932 اسمه «بريطانيا والعالم» تحدث فيه عن سياسة بريطانيا في مستعمراتها ومنها سياسة بريطانيا تجاه المملكة المصرية. الآن نستطيع إكمال المعلومات استقرائيا، فكما في عالم كرة القدم مهنة قديمة اسمها «الكشاف» يقوم فيها هذا الكشاف بالترحال في البلاد للبحث عن شاب صغير موهوب في لعبة الكرة، فهناك في عالم السياسة والمؤامرات والمخابرات كشاف يجوب العالم للبحث عن موهوب ينفذ خطة المدرب الأجنبي. الآن نستطيع الإجابة على عدة أسئلة ظلت إجاباتها غائبة عن التاريخ، وهاك الأسئلة التي ظلت تبحث عن إجابة: 1 لماذا قرر البنا أن يعمل في مدينة الإسماعيلية التي كانت مقرا لشركة قناة السويس وإدارتها الأجنبية؟ ولماذا فضل أن يبتعد عن أهله ومدينته أو حتى مدينة القاهرة التي كانت طموح الريفيين من أصحاب الهمم العالية والرغبة في البزوغ؟ 2 لماذا تبرعت الإدارة الأجنبية لشركة قناة السويس لحسن البنا بمبلغ خمسمائة جنيه وهو مبلغ ضخم بمعايير العشرينيات؟ ولماذا اعترض البنا على قلة قيمة هذا التبرع رغم ضخامته؟ وفقا لما أورده في مذكراته، فقد أورد أنه ساوم رئيس شركة قناة السويس وطالبه بمبلغ أكبر؟! ولنعد إلى ثورة 1919 وما تلاها لنعرف كيف فكر ملنر، ولماذا وافقه رئيس الوزارء ديفيد لويد جورج. كانت مصر قد بدأت تأخذ خطواتها في طريق المدنية الحديثة، وتعالت الأصوات من رجالها تطالب بالاستقلال الكامل، وخرجت النساء لأول مرة في تاريخ مصر في مظاهرات تشارك فيها الرجال في المطالبة بالاستقلال ذلك الحلم المنشود لمصر، وها هو الشاعر الكبير حافظ إبراهيم يكتب قصيدته الشهيرة عن ثورة النساء: خرج الغواني يحتججن... ورحت أرقب جمعهنه كانت كل مصر وكأنها قد تجمعت على قلب واحد يقول: إن مصر دولة ذات حضارة ضاربة في أعماق التاريخ، ولا ينبغي أبدا أن تظل رهينة في يد الاحتلال، حتى ولو كانت إنجلترا امبراطورية عظمى، فإن مصر بتاريخها وعمقها الحضاري أعظم، ولكن موازين القوة لا تعترف بالماضي، هي تعرف الحاضر فقط. ومع الرغبة الجارفة في الاستقلال عن إنجلترا، كانت هناك رغبة أخرى كامنة في الضمير المصري بالاستقلال عن الدولة العثمانية، ولكن كان هناك أنصار للدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية. انتهت فاعليات الثورة وقبلت الحكومة البريطانية آراء ملنر، وأصدرت الحكومة البريطانية تصريح 28 فبراير 1922 الذي أعلن من طرف واحد استقلال مصر، إذ لم يكن هناك في مصر وقتها من وافق على توقيع معاهدة مع الإنجليز، لذلك جاء بيان الاستقلال هذا على شكل تصريح. نزل هذا التصريح على قلب السلطان فؤاد بردا وسلاما، الآن يستطيع أن يتخذ لنفسه لقب «جلالة الملك» ويصبح كجورج الخامس ملك إنجلترا، فليس وحده هو الملك ولكن فؤاد أيضا كذلك، وفي 31 مارس 1923 خرجت أنفاس المصريين من صدورهم وهي تحمل زفير الفرحة، فقد تم في هذا اليوم الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، فسافر سعد إلى فرنسا، ثم سُمح له بالعودة إلى مصر فعاد في 18 سبتمبر 1923، وخرج المصريون في كل المدن والقرى يغنون أغنية سيد درويش التي لحنها احتفالا بعودة سعد ولكنه قد مات قبل عودة سعد بثلاثة أيام وهي «سالمة يا سلامة رحتي وجيتي بالسلامة». وسط هذه الأحداث صدر دستور 1923، وضح فيه أن مصر أخذت طريقها لبناء دولتها الدستورية الحديثة التي لها خلفية مرتبطة بالوطن والتاريخ، انحاز الدستور لدولة يتم تنظيم مؤسساتها على النسق العالمي الحديث، لها جهات تشريعية تملك الحق في التشريع لنفسها وإصدار القوانين، لها سلطة قضائية، تراقب تطبيق القانون وتعمل على تنفيذه على الوجه الصحيح، ولها سلطة تنفيذية تضبط كل ما يتعلق بإدارة البلاد، مصر الحديثة في هذا الدستور قوميتها عربية. وفي عام 1925 خرج للوجود كتاب فَجَرَ مصر من الداخل، هو كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبدالرازق، أثار الكتاب ضجة كبرى في مصر والعالم العربي كله حيث جاء فيه «إن الإسلام لم يضع لنا شكلا للحكم، ولم تكن الخلافة فريضة ولكنها كانت تناسب عصرها فقط.... ليس المهم عندنا شكل الحكم ولكن المهم هو أن يحقق نظام الحكم الذي نتخيره مقاصد الشريعة» كانت الطامة الكبرى عند بعضهم أن الشيخ علي عبدالرازق تطرق للخلافة، ونفى فرضيتها أو فريضتها، فقام الأزهر الشريف بسحب شهادة العالمية منه عقابا له على رأيه، وكتب عشرات الكتاب منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا عشرات الكتب التي تحاول تفنيد رأي علي عبدالرازق، وكتب العشرات أيضا كتبا تؤيده فيما ذهب إليه. وضح من هذه المعركة أن مصر انقسمت فعلا إلى فريقين، فريق يقول: إن الخلافة فريضة، وهي فريضة حتمية، ولا خيار لنا فيها ولا حق لنا في تبديلها ويجب أن تكون على شكل الخلافة الراشدة، وهي خلافة ممتدة لا حدود لها ولا أرض ولا وطن، إذ المستهدف منها الوصول إلى غاية واحدة هي السيطرة على العالم كله، فحيثما كانت أي أرض يصدح فيها الآذان فهي تابعة للخلافة الإسلامية، لا فرق بين عربي ولا أعجمي، وطننا في السماء، وطننا هو لا إله إلا الله، ولا عبرة بالأرض ولا الحدود، وكان هذا الفريق يقوده كبار علماء الدين مع بعض الوزراء والشخصيات العامة التابعة للملك فؤاد الأول الذي كان طامحا في الخلافة بعد أن انقضت الدولة العثمانية. أما الفريق الآخر فيقول: «ليس هناك شكل للحكم، ونحن نعيش في وطن عربي، نستمد عاداتنا وتقاليدنا من تاريخنا ومجتمعنا، ولنا الحق في أن ننشئ لأنفسنا نظام الحكم الذي يتوافق مع مصالحنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» وهذه هي دنيانا لنا أن نضيف لها ما يتناسب مع العصر، ولسنا تابعين ولا ينبغي أن نكون تابعين لدولة أخرى تحت أي مسمى، بلادنا ليست في السماء ولكنها في الأرض ذات الحدود المعروفة لنا التي ندب عليها بأقدامنا، ندافع عنها بأرواحنا، أما موعدنا في السماء فسيكون بعد الدنيا». انشغلت مصر سنوات بهذا الصراع، وما زالت، وبعد سنوات قليلة من احتدام هذا الصراع، ومن اتجاه جمهرة من المتدينين بالفطرة والعاطفة إلى «وجوب دولة الخلافة» ظهر شاب درعمي صغير في طور الشباب الأول، ولد في مدينة المحمودية، وسافر إلى مدينة الإسماعيلية البعيدة عن مدينته، ليعمل بها مدرسا وفقا لرغبته واختياره، وهناك حيث مجتمع يضم الموظفين الإنجليز والفرنسيين الذين يعملون في شركة قناة السويس، ويضم أيضا أغلبية مصرية من الحرفيين وصغار التجار وصغار الموظفين، في هذه البقعة المتنوعة يعلن الشاب الذي كان في بداية العقد الثالث من عمره إنشاء جماعة دينية اسمها جماعة الإخوان المسلمين، هدفها الأسمى هو «استعادة دولة الخلافة» لا تعترف بالوطن الذي نعترف به، وتريد أن يكون وطنها هو الدين، وليس الطين، وكان لهذه الجماعة الدور الأكبر في قسمة المجتمع المصري على خلفية عقائدية، لم تكن هذه الجماعة بعيدة عن يد المخابرات البريطانية، بل كانت في قبضتها وملك يمينها، كانت كقطعة من قطع الشطرنج تحركها يد اللاعب، ومن بعدها تسلمت أمريكا الملف.