الاقتصادية -السعودية * "الحكمةُ ضالّة المؤمن" برنامج "حِراك" للدكتور عبد العزيز قاسم بدأ يأخذ حيّزاً في الاستقطاب الجماعي للرأي العام. وللدكتور القاسم طريقة بارعة في إدارة النقاش، فما يميزه أنه لا يتعمّد الظهور كبطل الشاشة بالبرنامج، ويجندل ضيوفه ويقاطعهم.. يقدم لهم احتراماً وتقديراً، والرسالة كما أعتقد التي يهدف لها صديقنا العزيز عبد العزيز هي: شكراً أيها الضيف لأنك وافقت على الظهور في برنامجي فالفضل لك. والثانية إعطاء الوقت والتمهيد والأرضية ليتكلم الضيف بأريحية الفرصة؛ كي يقول ما يريد، وليصل الجمهور لغاية الضيف التي يريد دون مقاطعة. كما أن مهارة القاسم ولا أدري إن كانت تأتي له مطيعة هكذا أم أنه يتعمّدها، طريقة طرح السؤال أو المداخلة تنقل بطبيعتها وقتاً وكلاماً يلتزم بهما الضيف تلقائياً؛ لأنها من طبيعة السؤال. عرضت "حراك" موضوع الإثيوبيين وما جرى منهم وعليهم في أحداث المواجهة الأخيرة. وأنا لن أتعرّض للرأي قدر تعرُّضي لطبيعة الرأي، خذ مثلاً أن الدكتور فهد العرابي الحارثي، تكلّم بعناية وتؤدة كمَن يسير في حقل ألغام حتى لا ينفجر لغم عاطفة تثير ارتداداً غير محمود، فركّز على أمور ثلاثة: الحكمة، والتخطيط السليم "كعلاج وقائي"، والوقت. هذه العناوين الثلاثة ركّز عليها الدكتور الحارثي وهو لا ينظر لفوق، إنما يمشي بدقة متناهية حتى لا يتعرّض له لغم، ثم استغل ذكاءً حاداً في دَسِّ مسألته الإنسانية التي هي من أكبر همومه دون أن يمشي على صفيح ساخن، كما في مسرحية "تينيسي وليمز" الشهيرة. رسالته التي أراد إضاءتها تحت مظلة العناوين الثلاثة هي مسألة قائمة دائمة، وهي العدل: أي أن المجرم يعاقب، وغير المجرم لا يُلام، ويتفرع من هذا المنطق الموافق عليه من العقول المتزنة بأنه لا يصح التعميم على الناس، وركّزَ على أنها مشكلة نشارك بها نحن، وأشرت إلى النقطة نفسها بمقالي هنا في "الاقتصادية" المعنون: "الإثيوبيون غلطة مَن؟" بأننا غفونا وفيل صغير جاءنا ونما هائل الحجم أمامنا، ولم نره إلاّ الآن.. وكان بالإمكان التصدّي من أول شرارة. داخل صديقي وزميلي العزيز "عبد الوهاب آل مجثل" وطريقته دوماً الكشف عن أفكاره بلا أغطية دبلوماسية، وغيرته الوطنية مشهورة، بل يحتد من أجلها. وتعجبت من صديقي عبد الوهاب، أن يرى أن الدكتور الحارثي طعن بخاصرة الأمة، وأنه آذى.. إلى آخر ما قاله، وصدق في مسألة العبث الذي صار في الجنوب. ثم جاءت الهفوة الكبيرة التي أعتقد أن آل مجثل قاده لها حماسه حول موضوع قطع الآذان، ولا أظن أنه قصد أن يُعمد لقطع الآذان عندنا، إنما كان يقول عن شيء مثيل بعُمان، ولا أدري عن حقيقة ذلك، فما أعرفه عن العُمانيين - حسب تعاملي معهم - أنهم من ألطف شعوب الأرض، ثم وضح أن قصده وضع سِمَةٍ في الأذن وليس قطعها.. ولا شك أني ضد السمة وغيرها، فجسد الإنسان لا يحق لأحد أن يهينه أو يعبث به. وأخونا جميل الفارسي.. أولاً، دعوني أقول لكم لماذا أحبّ عقلَ هذا الإنسان. الفارسي عبقرية ساخرة من الطراز الأول على طريقة "آرثر بوكوالد" الأمريكي الراحل، إلا أن الفارسي يتفوق على "بوكوالد" بذكاءٍ منطقي سهل التناول والاستحضار، فهو عقلٌ أرشيفي منظم، ومنطقي مرتب، وفكري نظيف، فتنهال الأدلة والصور الرياضية كما يقول "إيمانويل كنت" في "نقد العقل المحض" لذا تراه يمنطق الأشياء تراتبياً بتتابع استنتاجي مع لمعاتٍ لاذعة من صنعته ومن صفته فتثبت في عقل المتلقي. كان الفارسي مع رأي الدكتور الحارثي مع بعض الإضافات.. إلا أن الفارسي استُفِزّ من مسألة قطع الآذان وثار وبتلك السخرية الكامنة، فرآها مسألة إنسانية لا يُعبث بها أبداً ولا يقبل حتى سماعها، ثورة احتجاجه لم تمنع سخريته في الإشارة لقطع.. أعضاء أخرى! نريد عقولاً للأمة مثل الحارثي والفارسي، ومثل الأستاذ حمد الحميدان نائب وزير العمل في مداخلته الهادئة الاستدلالية الواقعية والتنبيه على التنسيب وليس على العدد بشكل عام، وروحه الواسعة في مخاطبة الضيوف خارج النمطية القالبية التي تعوّدناها في اللغة الرسمية. هذه العقول ليس فقط علينا أن نجعلها تتكلم أكثر، بل أن نسمع لها.. بجديِّةٍ أكثر.