سطام عبدالعزيز المقرن - الوطن السعودية السجال والجدال بين التيارات الفكرية المختلفة ومحاولة تقوية سلطاتها على حساب الأخرى في المجتمع، كانت العامل الرئيس في عدم وضوح الأسباب الحقيقية للتخلف العلمي والحضاري للمسلمين عند النقاش في أسباب التخلف العلمي والحضاري للشعوب العربية والإسلامية، تقع اللائمة دائماً على الآخر، وينقسم الناس بهذا الخصوص في عمومهم إلى قسمين، وهما فريق "الدعاة ورجال الدين" وفريق "المثقفين والليبراليين والعلمانيين". فبعض الدعاة ورجال الدين ينظرون إلى الفريق الآخر على أنهم "عملاء الغرب وعملاء الغزو الفكري، الذين باعوا أنفسهم للشيطان، ويسعون إلى سلخ المسلمين من كل مقومات دينهم، وإلى إزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، وما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك"، وهذا هو السبب في تخلف المسلمين علمياً وحضارياً، الناجم عن التخلف العقيدي كما يقولون! ومن الأدلة التي يستشهد بها بعض الدعاة على صحة رأيهم السابق، قلة الكتب العلمية التي ترجمت مقارنة بمئات القصص والمسرحيات والروايات التي تحمل الفكر الغربي "الليبرالي" الجاحد للدين، والتي تهدف إلى تحطيم التقاليد الإسلامية ونشر الفاحشة والتحلل الخلقي بين الناس. بالإضافة إلى ما سبق، فإن العلمانيين والليبراليين يولون عناية خاصة بالداروينية ونظرية التطور، ونظرية الانفجار الكبير، وذلك بهدف إنشاء مجتمع لا دين له ولا أخلاق ولا تقاليد، وذلك تحقيقاً لبروتوكولات حكماء صهيون: "لقد رتبنا نجاح دارون وماركس ونيتشة وإن تأثير أفكارهم على عقائد الأمميين واضح لنا بكل تأكيد". هذه باختصار شديد وجهة نظر بعض الدعاة ورجال الدين في أسباب التخلف العلمي والحضاري للمسلمين والمتمثلة في ابتعاد الناس عن الإسلام من خلال ما يروجه أصحاب الفكر المنحرف عقديا من المثقفين العلمانيين والليبراليين، فإن ما أصاب المسلمين من التخلف والجمود والضعف سببه الرئيس البعد عن الدين والانحراف عن صورته الصحيحة. أما بعض المثقفين فيرون أن سبب تخلف المسلمين في جميع الميادين يعود إلى تزمت وتعصب بعض رجال الدين والدعاة بسبب "ضيق أفقهم وقلة وعيهم وعلمهم، فهم يعيشون بعقلية القرون الوسطى، ويريدون أن يحكموا على الحاضر بعقليتهم المتأخرة"، ويرون أيضاً أن سبب تقدم الغرب يتمثل في "نبذ الدين الذي كان حاجزاً عن العلم لأنه كان مجموعة من الخرافات والأساطير، وحاجزاً عن العمل والإنتاج لأنه ينظر إلى الآخرة ويهمل الدنيا"، ويستشهدون على ذلك بموقف رجال الدين من التعليم في بادئ الأمر، وموقفهم المعارض فيما مضى من التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، وتدخلهم في شؤون الناس في كافة المجالات، لذا كانت حياة الناس فاسدة يعتريها الظلم والجهل والتخلف. وعلى هذا الأساس، يستمر الصراع والجدل بين الفريقين بإلقاء اللائمة على بعضهم البعض، في حين أن الجميع لم يقدم شيئاً في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي لمجتمعاتهم، بل إن الأمر أسوأ من ذلك، فهذا الجدل أدى إلى عدم البحث عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء التأخر العلمي للعرب والمسلمين، وفي رأيي يعد هذا الجدل أحد الأسباب الرئيسة لهذا التأخر والجمود. إذا أردنا تحليل وفهم مواقف كلا الفريقين من بعضهما البعض، يتضح وجود عدة عوامل مختلفة، لعل من أهمها: صراع المصالح والمكانة الاجتماعية بين بعض رجال الدين وبعض المثقفين. فبعض الدعاة يقول ما نصه: "في ظل هذه الدورة الخبيثة يظل مدرس الدين يبعد عن الطريق ويداس بالأقدام، يسبقه غيره على الدوام، ولا يتولى وظيفة واحدة من وظائف التوجيه، فيظل صوته يخفت ويخفت حتى لا يسمعه أحد من الناس، ويظل الآخرون يبرزون ويبرزون حتى تصبح في أيديهم صدارة المجتمع"، وفي موضع آخر يقول أيضاً: "فرجال السياسة البارزون، الذين يصولون ويجولون وتلتف حولهم الجماهير.. كلهم من "العلمانيين".. ورجال الفكر والأدب البارزون الذين تنشر لهم الصحف والمجلات التي تتلقفها الجماهير هم كذلك من العلمانيين". أما بعض المثقفين فيقول: "لقد سيطر بعض رجال الدين على المجتمع، وبسطوا نفوذهم على الناس، من خلال منابر المساجد والجوامع، والسيطرة على التعليم العام وعلى بعض وظائف الدولة". ومن هنا يتضح سبب السجال والصراع بين رجال الدين والمثقفين، فالبعض يحرص على مصالحه ومكانته الاجتماعية، وتشير بعض الدراسات إلى أن الاحترام والتقدير يختلفان من مجتمع إلى آخر ومن مكان إلى آخر، ففي ألمانيا مثلاً المجد والتقدير للباحثين والمخترعين، وفي أفريقيا للإيديولوجيين السياسيين، وفي المجتمعات العربية للإنتلجنسيا البيروقراطية وكذلك الإيديولوجية السياسية والدينية التي تكون في قمة الهرم الاجتماعي. كما أن المجتمعات العربية والإسلامية لا تنجذب نحو العلوم الطبيعية والتطبيقية، بقدر ما تنجذب نحو العلوم الدينية والفلسفية، والعلوم التطبيقية تتطلب إمكانات ونفقات مادية، لا تحتاج إليها العلوم الفلسفية والدينية، لذا نجد أن هذه العلوم تنمو أكثر من العلوم التجريبية في بلدان العالم الإسلامي وخاصة الفقيرة منها، ناهيك عن قلة الدعم المالي والمعنوي لمراكز الأبحاث العلمية وعدم الاهتمام بها سواء من المجتمع أو الحكومات. بالإضافة إلى ما سبق، أعتقد أن هناك عوامل أخرى أسهمت في إعاقة العالم الإسلامي عن التواصل الحضاري والتحرك في خط النهضة والعلم وإنتاج الفكر، وأعتقد أن العالم المسيحي أيضاً قد مر بهذه العوامل في القرون الوسطى، من أهمها: أن التفكير لدينا مؤطر بإطار معين وقوالب خاصة يتم تعليمها وصياغتها من قبل رجال الدين والمثقفين على حد سواء، بالإضافة إلى مقاومة الآراء الجديدة بآليات العنف ومعاقبة أصحابها. وكما رأينا آنفاً فإن السجال والجدال بين التيارات الفكرية المختلفة ومحاولة تقوية سلطاتها على حساب الأخرى في المجتمع، كانت العامل الرئيس في عدم وضوح الأسباب الحقيقية للتخلف العلمي والحضاري للمسلمين، ويبدو أن الناس تعشق وتهوى هذا النوع من الجدال في الوقت الذي لا تلقي فيه اهتماماً بالعلوم التجريبية والتطبيقية وبعلمائها الذين ليس لهم سلطة في المجتمع ونادراً ما يدخلون في سجال مع الآخرين!