بهذا المفهوم الساخر في العبارة التي وضعتها عنواناً أقرأ الحوارات الدائرة بين المثقفين والمطاوعة في المملكة. لم اشعر في أي يوم اني سوف أخرج بمكسب ثقافي إلا إذا اعتبرنا التسلية مكسبا. دخلت في ما مضى في حوارات ومساجلات أو بالأصح مشاحنات مع بعض الزملاء على صفحات الجرائد. بعد سنوات من المراجعة اكتشفت أن كل ما دار بيننا من سجالات كان أساسه التسلية وامتاع قراء الجريدة التي كنا (نتناقر) فيها. كان مدير التحرير الذي يجيز الحوار ينصحني بإضافة بعض العبارات أو الكلمات أو الاكثار من السخرية حسب الطلب الجماهيري. بعد سنوات عرفت أني كنت جزءا من لعبة. استفدت منها ولم أستفد منها؟ زاد عدد قرائي ومتابعيّ ولكن لم يزد أو ينقص نسبة مؤيديّ أو كارهيّ. اكتشفت بعدها أن القراء لا يقدرون الكاتب وفقا لما يكتبه بل وفقا لما يعرفونه عنه مسبقا. بلغة أخرى يتابعون الحوار كما تتابع جماهير الكرة المباريات. لا أحد يتوقع من جمهور الهلال أن يغير رأيه إذا تلقى هزيمة من الاتحاد او العكس. سيخرجون من الملعب إما زعلانين أو فرحين، ولن تسمع منهم كلمة واحدة تعبر عن اقتناع بحق الخصم في النصر. المسألة ولاء لا قناعة. نحن (المشتغلين في الشأن العام والثقافي) لا نتحرك كأفراد. كل منا ينتسب لعائلة ثقافية. هذه العائلة تفرض عليك البقاء في محدداتها واحترام شروط الانتساب لها. لا يمكن ان أقر لك بنصر مهما كانت حججك ناصعة الاقناع. الشجاعة في هذا الأمر تهور. أيّ اعتراف لحجة من حججك سوف ينفيني من الجماعة ولا يعني ان الطرف الآخر سوف يتلقفني بذراعين دافئتين. لأسجل عضوا في الجماعة الأخرى يتوجب علي ان اتنازل عن كل شيء وأبدأ حياتي الفكرية من الصفر. الانتساب للجماعات الثقافية او الفكرية امر طبيعي في كل الثقافات. بيد أن الفرق بيننا وبين الغرب يقع في الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه حياة المرء في المجتمع. مرجعية كل العلاقات الاجتماعية في الثقافة الغربية فلسفة اسمها (الفردية). الحرية الفردية هي القيمة الاسمى التي تستوجب احترام الجميع. منها تنطلق السياسة ومنها تنطلق الأفكار الدينية ومنها تنطلق العلاقات الاجتماعية كالصداقة والزواج والأبوة. الأصغاء لأي حوار يبدأ في الذهن الغربي من ذاته (ذات المرء). بما يراه الفرد نفسه ويتفق معه لا ما تفرضه عليه الجماعة التي ينتسب لها. لا يعني هذا أن الإنسان الغربي لا يمتلك قيما أو لا تتملكه ايدلوجيا تحيزية ولكن مخه يعمل في كل اللحظات بطاقة من احساسه الفردي المستقل. تستطيع أن تدخل معه في حوار صدامي يمس قيمه الأساسية دون أن يثور ويطلق عليك النار. إما أن يأخذك بجدية، أو يأخذك على قد عقلك. لكن لن يعتبرك عدوا يجب قتله فورا. هذا معناه انه ينتسب للجماعة ولكنه يحتفظ بمسافة تحمي فرديته واستقلاله. الفرد منا يتماهى في الجماعة الثقافية التي ينتسب لها إلى درجة مصادرة الذات وإلغائها ومستعد لأن يطلق النار قبل ان يعرف السبب..