طالما كانت الخطب السياسية في الجوامع موضع جدل كبير، وليس بمختلف عليه، أن إيصال الرسالة من خطبة الجمعة، لا يكون بالطعن في ثوابت الوطن، وقداسة مكانته، ووحدة أبناء شعبه، ونسيجه الاجتماعي، ولحمته الوطنية، -ومثله- الإغراق في جزئيات السياسة، وأخبارها الرتيبة، وتأييد تيارات سياسية بعينها، والإقحام في قضايا ذات شأن داخلي لدول أخرى، هي محل خلاف بين شرائح مجتمعاتهم. وألا يكون ما سبق على حساب جوانب أخرى من مضامين خطبة الجمعة. خطبة الجمعة من الأدوات الدعوية المهمة، -ولا شك- أن خللا يحدث عند تسييس الموضوع، ناتج بسبب الابتعاد عن المصنفات، والمراجع العلمية، والركون إلى المصادر البشرية عبر وسائل الإعلام، -إضافة- إلى عدم ترك الأمور الجسام لأهل الحل، والعقد إن لزم التدخل إلى ذلك سبيلا. ثم إن الخطاب الدعوي يكون نابعا من فهم صحيح ملتزم بمنهج علمي، يعتني بسلامة العقيدة، وصفائها من الخرافات، والعبادة من المبتدعات، والأخلاق من الانحرافات، وصولا إلى درء الشبهات، وتصحيح المفاهيم؛ من أجل تشكيل العقلية الواعية، بخلاف الخطاب السياسي المبني على أمر معرفي اجتهادي، يكون صاحبه عرضة للخطأ. كما أن التعرض لتفاصيل السياسة، لا تكسب السامعين مزيدا من علم، أو توريثا لخشية، بل العكس هو الصحيح، نتيجة إحداثها مهاترات، وسباباً، وخصاماً، وغير ذلك من الأمور التي تفرق، ولا تجمع، وتهدم، ولا تبني، بل وتؤثر على وحدة المسلمين. وهذا ما يقتضيه "فقه الواقع"، بأن تبقى الجوامع خارج الصراعات السياسية؛ كي لا يفقد قدسيته، وتأثيره. ومع هذا، فإن معرفة الواقع المعاصر بتداخلاته، وتعقيداته، لا بد أن يقدر بقدره الأصولي، ويضبط بضوابطه الشرعية، وذلك حسب الأحوال الزمانية، والمكانية، وإلا حصل الخلل المنهي عن الوقوع فيه. يضاف إلى ما سبق، ضرورة مراعاة مستويات الناس، ودرجة فهمهم، الأمر الذي يتطلب من الخطيب، أن يكون مستوعبا لواقعهم العلمي، والاجتماعي، والسياسي؛ من أجل ترسيخ القيم الإسلامية الأصيلة، والمفاهيم الإيمانية الإيجابية، التي تساعد في استقرار المجتمعات، والمساهمة في حل أزماتها، ومعالجة مشكلاتها، وتعليمهم أمور دينهم. إن حرص وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف، والدعوة، والإرشاد، على استقطاب الكفاءات، من الذين يعالجون تحديات الواقع برؤية شرعية، ووضع برامج للتأهيل المستمر، مطلب مشروع؛ من أجل الرقي بهذه الشعيرة العظيمة، والانطلاق بها نحو آفاق الإبداع، والتميز. فخطبة الجمعة ليست خاضعة لاجتهاد الأفراد، -وبالتالي- تطويعها لأهداف شخصية، واستخدامها كأدوات سياسية، أو ترويجها كغطاء مذهبي، وإنما خاضعة لخصوصية الهدف، وهو بيان الدين، وشموليته، ووسطيته، وتحويلها في حياة الناس إلى واقع عملي، وهذه هي القيمة الكبرى للخطبة في الإسلام. أيلام المرء بعد ذلك إن قال: إن تسييس خطبة الجمعة، يعد خروجا عن الهدي النبوي، الذي أمر بوحدة الصف، وتلاحمه، وتعاضده؟ وعليه، فإن أسمى منهج ينبغي أن يسلكه خطيب الجمعة، هو منهج القرآن، والسنة، اللذان بينا ما تصلح به الأمة في أمور دينها، ودنياها، ومعاشها، ومعادها، دون تهريج يؤدي إلى تحريش، أو تسييس يؤدي إلى تفريق.