مطرنا بفضل الله ورحمته. وظهر العوار الكبير في البنية التحتية والطرق والكهرباء والجامعات والمدارس والحدائق وحتى العبَّارات التي يفترض أن تنقل المياه وتحمي الأحياء السكنية من أخطارها. تشققت طبقات الأسفلت لتنتقل مع السيول وتسبب خسائر أكبر. ظهرت حفر في الشوارع تلتهم السيارات. ثبت مرة بعد أخرى أن المخططات التي منحت أو وزعت أو اغتصبت في مجاري السيول ما هي إلا جرائم بحق الوطن والمواطن. طالب كبار السن والخبراء والمهندسون وعامة الشعب أن يمتنع الناس عن شراء تلك المخططات، إلا أنه لم يكن للمضطر حيلة، فاشترى المواطن البسيط، وأول ما أمطرت كانت سيارته أول العابرين من أمام بابه لغير رجعة. اشترى المسكين لأن كل المعروض في بطن الوادي، أما تلك التي في الجانب المحمي من الوادي فهي محظورة البيع. احتفظ ''هوامير العقار'' بالأراضي ذات القيمة العالية، وتخلصوا من تلك التي تمثل خطراً على السكان، وتقف في طريق ذلك المارد الذي يشق طريقه مهما اعترضه من العوائق. وقعت البلديات في الفخ، فرخصت – مجبرة أو بطلة – لتلك المخططات ليس لغرض مشبوه أو نية مبيتة، لكن لأنها تسهم في حل أزمة الإسكان. مشكلة الإسكان التي وعد الجميع بحلها، لكن الحلول تبدو مثل الأحاجي التي لا بد أن يفك ''شفرتها'' من يفهم كيف يسير العمل، وقائمة الأولويات، وأين موقع المواطن من سُلَّمها. ماذا يفعل المواطن المسكين، هل يقاضي الجهة التي ظل يراجعها للحصول على صك ذلك العقار الذي اختفى كل ما فوقه وبقي هو صامداً رغم الحفر التي تشوه وجهه؟ أم يقاضي البلدية التي رخصت للبناء في مجرى سيل؟ أم يقاضي البائع الذي لم يعط من وقته أكثر من نصف ساعة، لأنه باع الأراضي على شكل ''بلوكات''؟ أم يقاضي ''أنصاف الهوامير'' الذين اشتروا البلوكات، ووضعوا فوقها من 30 إلى 50 في المائة فائدة ليبيعوها خلال أسبوع واحد؟ أم يقاضي القانون الذي يسمح للمالك بأن يمتلك أرضاً في وسط المدينة تقدر مساحتها بملايين الأمتار المربعة، ويسمح له بتركها بقعاً قبيحة على وجه كل مدننا، ولا يدفع في المقابل أي رسوم على حرمان الناس من السكن أو تشويه المدينة أو التأثير في مسار الخدمات، أو الحفريات التي يعاد تنفيذها مرة بعد أخرى لحي يأبى أن يكتمل بناؤه. الحفريات المتكررة قضية أخرى، أشك في كثير من الأحيان أن الحفر يتم للحفر ذاته وليس لسبب آخر. أقسم أن الشارع الذي أمام منزلي حفر أربع مرات في سنة واحدة، إذن فهناك مشكلة حقيقية لا بد من مواجهتها. الكهرباء تحفر والمياه تحفر والهاتف يحفر والصرف الصحي يحفر. فإذا بني المنزل المجاور جاءت الكهرباء لتحفر وعادت شركة المياه لتحفر ثم أكملت الاتصالات الربط بشبكة ''الفايبر''، ثم عادت شركة المياه لتصرف الحي، فإذا كبرت مصيبة الحي جاء تصريف السيول ليقيد الحركة في الشارع شهوراً. وما إن تنتهي الشركات حتى يبدأ جار جديد في البناء. يذكرني هذا بدورة ''ديمنق'' للجودة الشاملة، ولكن للعبث الشامل، فلكل شيء قواعده يا سادة. هل عرفتم لماذا أجرم في حقنا ذلك الذي احتفظ بالأراضي لأنها لا تأكل ولا تشرب؟ نعم لقد ارتكب جريمة كبرى، فالحَفْرُ تقوم به خمس شركات لكل منزل؛ أي أن كل شارع قد تعمل فيه أكثر من 20 شركة قبل أن تكتمل الخدمات لساكنيه. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني ضياع دم القتيل ''الشارع هنا'' بين الشركات. فعندما يهبط الشارع أو تنجرف أجزاء منه أو ممتلكات مواطنين ضعفاء يسكنونه، فليس هناك من ''قبيل'' يقاضونه، لأنه لا يوجد متهم. ارتكب صاحبنا جريمة بحق الناس؛ لأنه، ومع هذا الكم من الحفر والنقل والتكسير، تضطر الشركات العاملة والبلديات لطرح الأعمال في منافسات عامة، وهذا شرط السادة في وزارة المالية وديوان المراقبة العامة، وهذا هو سبب ظهور إعلانات منافسات عامة أكثر من الإعلانات الشخصية في الصحف. فلو كان في المدينة 100 شارع فهناك طرح لأكثر من خمسة آلاف منافسة، وبهذا تظهر في ميزانياتنا تلك الأرقام الكبيرة للمشاريع المعتمدة. جريمة ''الهامور'' لم تتوقف هنا، بل إنه زاد الطين بلة عندما اضطر البلدية والشركات الحكومية لطرح خمسة آلاف منافسة، تسألونني كيف؟ إن طرح هذا الكم من المنافسات يستدعي أن يكون في السوق عدد كبير من المقاولين، ويطمح كل منهم للحصول على جزء من ''كعكة المشاريع''، ويسهم في ذلك تخوف القطاعات من أن ترسو المشاريع على المقاولين أنفسهم أكثر من مرة؛ لأنها ستتهم بالفساد، ولأن المقاول الأردأ يقبل بسعر أدنى، فتضطر لقبول ''الأعرج والمنكسر'' من المقاولين لتنفيذ المشاريع، وإلا فمصيرها برنامج ''الثامنة مع داود''؛ لأن أغلبية أصحاب المؤسسات الرديئة وغير المؤهلة هم من ''الدعوجية''، ولاحظوا كلمة ''الدعوجية'' هذه؛ لأنها ستظهر معنا لاحقاً، ثم يظهر عوار التنفيذ عندما يرزقنا الله الأمطار. هدم، تكسير، جرف ولكم أن تستخدموا كل العبارات التي لم تتمكن ''العبَّارات'' من تصريفها. يبحث الناس عن السبب، فيكون ''الهامور'' محصناً بحكم القانون وتراخيص البلدية، وتكون البلدية محصنة بحكم كاتب العدل، وتكون شركات الخدمات محصنة بحكم كثرة المقاولين، ويكون المقاولون محصنين بحكم قدراتهم ''الدعوجية''، فيهابهم كل المسؤولين، ثم تظهر في الإعلام عبارة اتهام مقاول بإهدار المال العام، أو عبارة الحكم على مقاول بتهمة الرشوة والفساد، أو عبارة هروب مقاول أجنبي بعد اكتشاف عيوب في تنفيذ العقد. ف''الدعوجي'' لا يمكن أن يُذكر اسمه، وبهذا يستمر في السوق ويتحول من تنفيذ مشاريع الدولة إلى تنفيذ مشاريع المواطنين، ليضمن أن تكتمل دائرة التضحية بهم من قبل ''الهامور'' والبلدية وكتابة عدل وشركات الخدمات والمقاول ''الدعوجي'' مجهول الهوية، الذي لن يحصل منه على شيء.