أخشى أن تقودنا وسوسة الانحياز للأيدلوجيا إلى الندم على ترك مصر وحيدة في عسرها بين أنياب هذا الاستهداف "الفارسي" الذي يقدم العصا والجزرة ويحمل إلى أرض مصر أجندته الواضحة على سيرة حائط "المبكى" الشهير عند اليهود فإنني كنت أحدث أصحابي مازحاً ببعض تخريفاتي وأقول لهم إن الحوائط ثلاثة تتدرج ابتداءً من حائط "المشكى" حيث تبث همومك وشكواك ثم يليها حائط "المبكى" حيث تتمادى حدة الدراما صعوداً إلى درجة البكاء ربما تبعاً لعدم استجابة الشكوى ثم إن هناك ثالثا هو حائط "المتكى" وهو مصير أصحاب الرضوان والقبول والسكينة التي يبثها حائط تتكئ عليه بعد عناء. تلك حالة ميتافيزيقية تعتمد اللعب بالألفاظ والارتهان للخيال، وقد استحضرتها أخيرا لما رأيت حالة التناهب والتنازع التي تتعرض لها مصرنا الشقيقة خلال تحولاتها الثورية من بعد أحداث 25 يناير التي غيرت نظام مصر واستجلبت مزاجا مختلفا ونظاما فارقا عن سابقه. وبحكم هذا التحول، بل وبحكم ما تفرضه سنن الثورات من ضغط وإضعاف لمفاصل الدولة الاقتصادية والجيوسياسية وبحكم ما ينتجه هذا التحول المفاجئ من تغير يقتضي ثباته زمنا غير يسير، فلذلك كله فإن الحنكة والدربة السياسية تقتضي مراعاة هذه التغيرات ومسايرتها بحكمة تفرضها تحولات السياسة الدارجة التي ليس فيها صديق دائم ولا عدو دائم، وإن من مقتضيات ذلك المصانعة وركوب موجة التحول بما يضمن استمرار العلاقة والإبقاء دائما على "شعرة معاوية" في سياسة المعاملات. وهكذا فإن مصر هي الدولة العربية المركزية التي تشكل سندا قويا وثقلا كبيرا ودورا محوريا لكل من يتكئ عليها ويتعاضد معها. ومنذ عقود والتحالف بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر تشكل عنصر قوة لكل هذه الأطراف من حيث تبادل المنافع الاقتصادية بالنسبة لمصر والمنافع الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي، وقد برز ذلك بوضوح خلال حرب أكتوبر 73 في مواجهة العدو الإسرائيلي، حيث كان الدعم السعودي الاقتصادي عونا واضحا لمصر السادات في تحطيم خط بارليف وتحرير سيناء، كما كان دعم مصر مبارك المعنوي والعسكري خلال حرب تحرير الكويت عونا واضحا للسعودية ودول الخليج في مواجهة رفض "دول الضد" مما أثمر مع دعم الدول الصديقة عن طرد الغزاة وإعادة الكويت لسابق عهدها. والآن ونحن أمام تحولات مصر من عهد إلى عهد ومن حال إلى حال ومن عسكر إلى إخوان، فإن علينا في خضم هذه الهوجة أن نركب – حتى لو لم نرغب - الصعب ونساير تحولات الموجة صعودا وهبوطا حتى ترسو على حال مستقرة يتحتم معها وضع أجندة محددة للتعامل. أقول هذا الكلام وأعلم أن الحال عندنا منقسم إلى فسطاطين متخاصمين فريق يجعل بيضه كله في سلة الإخوان وفريق آخر يفرغ السلة من كل البيض، لكن السياسة خلاف كل ذلك فلماذا تغلبنا العاطفة وتدفعنا الشهوة ويقودنا الانحياز وتتلبسنا الأيدلوجيا والأجندات فيما كان علينا أن نبتدر المصالح ونغلب المنافع وندخر المخاطر في المحافظ الآمنة. بالنسبة لي كسعودي وخليجي وعربي فإن مصر – في كل أحوالها - الملكية والعسكرية والإخوانية أو في كل حالاتها العلمانية والاشتراكية والليبرالية والإسلامية خيار لا غنى عنه فلماذا هذا التشويش أو التشكيك ولماذا هذه الحالة الرمادية التي نمر بها كقادة رأي ونشطاء، وربما حكومات تجاه ما يحدث في مصر التي تعتريها بسبب الثورة حالة من الوهن الاقتصادي، مما يسوغ لبلد كإيران استثمار هذه الفرصة السانحة لاحتواء مصر ونشر الأجندة الفارسية مدعومة في ذلك من العراق الدولة العربية العجمية في ولائها الرئاسي، ويزيد من دعم موقف إيران والعراق التي توالي تقديم العروض الاقتصادية المغرية لمصر، الوضع الاقتصادي المصري الذي يعاني الهزال بسبب هذه الاعتصامات والمظاهرات والاضطرابات التي تشهدها الشوارع والمدن المصرية منذ اندلاع الثورة وإلى أجل غير منظور. وهكذا فإن ما يحدث يوجب على المملكة ودول الخليج ممارسة قدر من الحكمة والصبر والوقوف إلى جانب مصر في تغيراتها التي تعيشها منذ الثورة على نظام العسكر. إنني أستغرب ما يحدث من هجوم على حكم الإخوان في مصر من قبل بعض المحسوبين على دول الخليج الشقيقة وكذلك من بعض أدعياء الليبرالية وهم أول دعاة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع التي جاءت بالإخوان لرئاسة مصر، بل إنهم زادوا وبالغوا في تغريداتهم "التويترية" على نحو يظهر حالة من الوصاية والتدخل في شؤون "المصريين" فبعض ربعنا صاروا مصريين أكثر من أهل مصر. لست إخوانيا كما يعلم كل من يعرفني، لكنني أقدم مصلحة بلادي ومصلحة العرب على مصلحة كل الانتهازيين في شرق الخليج العربي الذين يمسكون مصر هذه الأيام من "اليد التي توجعها" كما يقول المصريون، وإن إيران والعراق وكل من والاهم يفعلون ذلك ويفرضون شروطهم فهل ندع لهم ساحة مصر المهيضة؟ أخشى أن تقودنا وسوسة الانحياز للأيدلوجيا إلى الندم على ترك مصر وحيدة في عسرها بين أنياب هذا الاستهداف "الفارسي" الذي يقدم العصا والجزرة ويحمل إلى أرض مصر أجندته الواضحة ثم أخشى لاحقا أن نسعى متأخرا للتدارك وتصحيح الأغلاط بعد أن تكون مصر قد آلت إلى نفس مصير العراق الذي صار ولاية فارسية بامتياز.أرجوكم اتركوا الأيدولوجيا وانعتقوا من أفكاركم الجاهزة وقدموا مصالحكم على ما سواها ثم عضّوا على مصر بالنواجذ فإنها خير عون وخير ملاذ وإنها حائط "المتكى" الذي نتوسده ونركن إليه في الشدة فنشعر بالراحة والأمان.