كل عاقل يحسب جيدا المصالح التي يتوخاها قبل الإقدام على أي عمل. هذا كلام بدهي لا يجادل فيه أحد. لكن الأمر ليس بالعفوية في الحياة السياسية نفسها. ثمة من يريد إقناعنا بأن المصالح نقيض للمبادئ والقيم. من يتمسك بالمبدأ فعليه التخلي عن المصلحة، ومن يسعى لضمان مصالحه فهو بالتأكيد غير مبدئي. أكثرية السياسيين والناشطين في المجال الاجتماعي إذا لم نقل جميعهم يؤسسون مواقفهم المكتومة والمعلنة على (المصلحة) التي يرونها لأنفسهم، أو للوسط الاجتماعي الذي يعتمدون على دعمه، المصلحة الفورية عادة، والبعيدة الأمد في بعض الأحيان. إلا أنهم في الوقت نفسه يتنصلون من هذه الحقيقة. وربما اعتبروا هذا القول (تهمة) تستوجب النفي والتكذيب، وربما جاهدوا بكل ما استطاعوا للتدليل على أن مواقفهم وآراءهم، تعبر تماما عن مرادات الأيديولوجيا التي يؤمنون بها (الشريعة أو غيرها). غموض العلاقة بين فكرتي المصلحة والمبدأ، أدى إلى تقسيم السياسيين في نظر الناس إلى فريقين: فريق ""يمتدح"" بأنه مبدئي، وفريق ""يتهم"" بأنه مصلحي (أو براغماتي حسب التعبير المتداول حاليا). ويشار إلى الفريق الأول باعتباره أكثر تمسكا بالعقيدة، وإلى الثاني باعتباره متحررا. والحقيقة كما هي في الحياة السياسية على أقل التقديرات أن الفريق الأول لا يختلف عن الثاني، في اعتبار المصلحة العاجلة أو البعيدة الأمد منطلقا وأساسا لمواقفه العملية. وغاية ما يميزه عن منافسه هو قدرته اللغوية أو المعلوماتية، التي تتيح له عرض مواقفه في إطار يبدو لصيقا بالأيديولوجيا، بينما يفتقر الثاني إلى البراعة اللفظية والإعلامية التي يتمتع بها الأول. فكرة (المصلحة) والتأسيس عليها والدفاع العلني عنها، غير موجودة، أو لنقل على سبيل التحفظ إنها غائبة في الثقافة الإسلامية المتداولة، ولا سيما الشعبية. ونجد الخطاب الرسمي كالخطاب الشعبي تماما، يتحدث عن علاقة الدولة بالمجتمع، وعلاقة الدولة بالدول الأخرى، وعلاقة الأطراف الاجتماعية ببعضها كتجسيد لقيم أو متبنيات ذات ظلال معنوية بحتة، بينما هي في الواقع، وينبغي أن تكون، تعبيرا عن مصالح تتقارب أو تتباعد. إن أقرب الأصدقاء في السياسة قد تبعده مصالحه عنك. كما تقربك مصالحك إلى البعيد القصي. وبالنسبة للزعيم أو الجماعة السياسية، فإن صدقيتها في تبني مصالح المجتمع الذي تدعي تمثيله، ستكون رهينة بمدى حرصها على تحقيق مصالحه المباشرة والمحددة، وليس في انسجامها مع متبنياتها الأيديولوجية التي تخصها وحدها. حينئذ فإن المبدئية الحقة ستكون في حجم الإنجازات المحققة للجمهور، أي في قدرتها على تحقيق المصلحة العامة.