بين يدي اليوم حقيقتان دستوريتان يمثلهما قانونان، أحدهما يخص حقا من حقوق المتهم، والثاني يخص حرية الصحافة والتعبير. القانون الأول صدر في ظل التعديل الأول للدستور الأمريكي عام 1791م، وينص على أنه: لا ينبغي للكونجرس الأمريكي أن يصدر قانونا يحد من حرية لصحافة والتعبير أو يعوق تدفق المعلومات إلى جمهور القراءة. ويكفل القانون الثاني من التعديل السادس من الدستور الأمريكي حق المتهم (في جريمة ما) في محاكمة سريعة عادلة نزيهة. وتوالت السنون، وإذا بالقانونين يتصادمان لأول مرة في قضية جنائية كانت تحت أنظار المحكمة في عام 1932م. واستمر التصادم والتعارض بينهما حتى وقتنا الحاضر، وذلك من منطلق أن الصحافة حرة في نقل الأخبار والمعلومات والتعليق عليها بموجب نص الدستور، كما أن المتهم له الحق في التمتع بمحاكمة عادلة. ومظهر التعارض والتباين والنزاع بين المحكمة والصحافة حين تكثف الأخيرة في تغطيتها لأخبار المدعى عليه (المتهم)، مستندة على حريتها في النشر والتعبير، فتشرع في وضع العناوين الضخمة، وتتابع القضية بمقالاتها وتعليقاتها وتقاريرها الإخبارية المثيرة عن المدعى عليه منحازة له أو منحازه ضده. كل ذلك قبل المحاكمة وأثناءها. استخدام حرية الصحافة على هذا المنوال يحدث جوا من التأثير في حيادية القاضي، ويضر بسمعة المدعى عليه ويحرمه من حق التمتع بمحاكمة عادلة نزيهة. هذا التدخل الصحفي في الحكم مسبقا على المتهم بالإدانة أو البراءة دعا كثيرا من المحاكم الأمريكية (وقلدتها المحاكم في بعض البلاد الأخرى) أن تمنع التصوير الصحفي داخل المحكمة أو التسجيل أثناء المحاكمة، والاكتفاء بمذكرات موجزة تحول دون نقل الصحفي المشهد التفصيلي الحقيقي لما يجري في المحكمة. وكان ولا يزال الجدل قائما حول التغطيات الصحفية للمتهمين بصورة لا ترضي كثيرا من المحاكم في أنحاء العالم.. بل لا ترضي كثيرا من كتاب الصحافة، ومن هؤلاء الكتاب في صحافتنا المحلية.. الأستاذ أنس زاهد (المدينة 23/6/1428ه)، د. محمد علي الهرفي (عكاظ 6/4/1432ه)، فكلاهما يتصدى لتجاوز الصحافة على حق الإنسان في محاكمة عادلة، واعتبرا ذلك تطاولا على سلطة القضاء في محاولة للتأثير عليه وتشويه سمعته في بلادنا. ولئن كانت صحافتنا لم تصل إلى مستوى الإثارة التي تؤثر في أحكام القضاء إلا في القليل؛ كالأمثلة التي أوردها د. الهرفي في مقاله (لا تسمح المساحة لإيرادها هنا).. راجيا أن تكون هذه الأمثلة من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.