دعاني جارٌ لي وهو شيخٌ كبيرٌ لحضور وليمة عشاء في منزله العامر بمكة، وأثناء جلوسنا دخل أخوه فسلَّم عليَّ، وعرفني من خلال مقالاتي في الصحف، وقال رغم كبر سنه: هل لازلت تكتب؟!، فقلت: نعم، قال: رغم متابعتي لك، إلا أنني أعتزل قراءة الصحف أحياناً متعددة، لأني لا أرى أي أثر في الواقع، ولو كنت مكانك (سأعتزل الكتابة!!). بدأت آثار قصة صاحبنا هذه تجول في خاطري وأنا في سيارتي متجهاً إلى جدة، وآثار القصة لم تكن عن ميولي لاعتزال الكتابة كما هي نهاية القصة، بل إلى عمق ما نكتب وأثره في الواقع، كما في بداية القصة! الحقيقة أنه لا يوجد شيء في عالم الناس يدعو للشفقة المطلقة، ولا الغضب المطبق، إيماناً مني بأن الناس هم من يقررون المعنى وفق سنن الكون، أو التخلف عنها. ولكن بين هذا وذاك هناك أرتال بشرية كان من سنة الحياة أيضاً أن تَتْبَع غيرها، وتُشغل بذاتها، ولكن هذا القدر لا يعني عدم الالتزام بتمام العدالة والحقوق لنيل ما يحتاجونه من عيش كريم، وكرامة تجعلهم يطلقون الشهيق والزفير بتوقيته، لا في آن واحد! الكثير من الخلائق تعتزل الساحة، ولكن السؤال ما الذي يدور في خلد الناس بعد الاعتزال؟ الرياضي مثلاً لربما صفَّق له مئات الآلاف في المدرجات والساحات، وتابع خروجه من المستطيل الأخضر الملايين من كل الأعراق والأعمار، بيد أن السؤال العريض: ما الذي سجَّله هذا الرياضي في تاريخه؟ ألا يمكن أن يكون قد تسبب في إعاقة العشرات أو المئات، وتسبب لبعضهم بكسور وعاهات، ووصل به النَّزق إلى مسلسل من الشتائم، وما قد يكون تسبب به لنفسه وغيره من جراحات نفسية؟! يا ترى أين يُذهب بكل هذا؟ والسياسي الذي قرر أن يعتزل ساحة الشد والجذب، وتابعته الجماهير وهو يصرِّح في كل حدث، ويعلِّق على كل موقف ساخن وبارد، يا ترى ألا يمكن أن يكون قد تورّط في السكوت عن جرائم، أو التسبب بها، أو ممارستها، على جميع الأصعدة؟ والشيخ الذي قرر أن يعتزل المنابر وساحات التأثير، وكان مضرب المثل في الشجاعة، وفتاواه المدوية، يا ترى ألا يمكن أن يكون قد تشنَّج وتسَّرع في مواقف لا تخدم الدين، وأقوال لا تستند لدليل صحيح، ولا مقصد شرعي، بل لربما أسهم في خدمة توجهات ومصالح خاصة باسم الدين؟ إن مجرد فكرة الاعتزال بعد طول عمر ليست بطولة بحد ذاتها، ولا هي فرصة لانتظار تكريم الجماهير، واحتفاء النخب، بل هي عملية تنتهي شكليّاً لتبدأ واقعاً في المحاسبة وحكم الجماهير على حقبة جمعت ما قالوه وفعلوه! الكثير من الكتَّاب والإعلاميين والمثقفين بل حتى الفنانين والرياضيين وبخاصة في زمن الربيع العربي، ومع تطور وسائل الإعلام الجديد - الكثير منهم اكتشف الناس أنهم بحاجة إلى أن يعتزلوا ساحات التأثير، أو أن يعزلهم الناس من قاموس اهتماماتهم، وجدول متابعاتهم، وبرامج مشاهداتهم، والتعليق على كتاباتهم. لأنهم باختصار (زودوها) في الشخصنة، وسذاجة التحليل، والفجور في الخصومة، والتحيُّز الأرعن، والتراجع القيمي. فكرة الاعتزال في العصر الحديث لم تعد متعلقة بمن يقرر الاعتزال، بل بالجماهير التي هي من يكتب ويشارك ويتفاعل، ويقرر من يستحق الاحترام والبقاء، أو أن يُعزل أيًّا كان مسمَّاه وموقعه.