يكثر التندر على النساء بأنهن يملن إلى كتم حقيقة سنهن، ورغم أن هناك بين الرجال من يفعل ذلك أيضا إلا أن هذه الصفة بقيت ملتصقة بالنساء وحدهن. وقبل أيام كنت أقلب في كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي فاستوقفتني عبارة له تضمنت ثلاث وصايا (كتمانية) يوجهها لقارئ كتابه، كانت إحداها الوصية بكتم السن وعدم إطلاع الناس على حقيقته، وإذا كانت النساء يكتمن سنهن لأنهن يعرفن أن ذهاب الشباب يعني ذهاب كثير من المزايا في حياة المرأة، وربما الرجل أيضا، فإن ابن الجوزي كانت له أسباب أخرى مختلفة، ابن الجوزي يعتقد أن الناس يتعاملون مع الآخر بحسب سنه ويحكمون عليه من خلال ذلك، لهذا من الخير للإنسان أن لا يطلعهم على حقيقة ما بلغه من السن، يقول: «وكذا ينبغي أن تكتم سنك فإن كنت كبيرا استهرموك، وإن كنت صغيرا استحقروك». وهنا يجب التنبيه إلى أن ما يوصي به ابن الجوزي هو مجرد كتمان السن وليس الكذب فيها، فتذكر ذلك عندما تسأل عن سنك، لا تكذب، ولكن لا تجب!! الوصية الثانية لابن الجوزي هي كتم مقدار المال الذي تملكه، وذلك عكس ما يفعله البعض من محدثي النعمة حين يتباهون بكثرة الثروة وسعة الغنى، وما يدفع ابن الجوزي إلى إهداء هذه الوصية ليس الخشية من العين والحسد، أو التهرب من دفع الزكاة، ما يدفعه هو أنه يرى أن من طبيعة الناس أن يربطوا بين مالك وسلوكك كما فعلوا مع سنك، فمالك «إن كان كثيرا، نسبوك في نفقتك إلى البخل، وإن كان قليلا، طلبوا الراحة منك»، فمن الخير لك أن لا يعرف أحد كم عندك!! أما الوصية الثالثة فإنها أم الوصايا وأسمنها وأثقلها، ابن الجوزي يوصيك بكتم المذهب الذي تعتنقه، وهذه الوصية لأسباب أمنية بحتة، فأنت «إن أظهرته (مذهبك) لم تأمن أن يسمعه مخالف فيقطع بكفرك»!! ابن الجوزي من علماء القرن السابع للهجرة، لكن وصيته الثالثة ما زالت فعالة لم تنته صلاحيتها إلى اليوم!! فعلى مر القرون الثمانية الفاصلة بين عصرنا وعصره والناس هم الناس! لا يحبون من يخالفهم الرأي ولا من ينشق عنهم فيختار لنفسه طريقا غير طريقهم، وكما أن طبيعة الناس لم تتغير، فإن سلاحهم المشهور في وجه المخالف هو أيضا لم يتغير فظلوا عبر القرون الثمانية لا يجدون سلاحا يرهبون به المخالف أمضى من (التكفير)!! واختلاف المذهب الداعي إلى التكفير الذي يوصي ابن الجوزي بكتمانه ليس بالضرورة أن يكون مذهبا دينيا فحسب، وإنما أي مذهب اخترت السير في ظله مما يخالف اختيار الآخرين هو مدعاة لتكفيرك، مذهبك الثقافي، ومذهبك الأخلاقي، ومذهبك الإنساني، في أي اتجاه سرت تجد التكفير يترصدك جزاء وفاقا طالما أنك اخترت أن تكون مخالفا!!