إذا انقرض الشعر والموسيقى سينضب الضوء الذي يغذي الأرواح المرهفة ويضمد أوجاع النفس الإنسانية، وإذا نضب هذا الضوء انطفأ العالم، وتفاقم عدد الأرقام البشرية التي تتنفس دون حياة، وتسير على قدمين دون أمل. لم يخطئ الشاعر الألماني «نوفاليس» حين قال «الشعر يداوي الجراح التي يحدثها العقل»؛ فبعض القصائد تمتلك سحرا لغويا وموسيقيا قادرا على مس أوتار القلب والتحليق به نحو عالم جديد من التفاؤل، والحماسة، وحب الحياة، والتشبع العاطفي الذي يصل بالقارئ أو السامع إلى مرحلة مرضية من التصالح مع الذات، وبعضها موغل في القسوة والهجاء إلى حد يملأ النفس شعورا بالراحة التي تلي محاولة ناجحة للانتقام من أشخاص نردع أنفسنا عن مواجهتهم إيثارا للسلام، ويحرر أذهاننا المزدحمة ضجيجا من هذر عالمنا الواقعي بموسيقاه التي توسع رقعة الهدوء بين حجراتها، وهو ما أكده الشاعر الفرنسي «ستيفان مالارمي»، حين قال «مهمة الشعر هي تنظيف واقعنا المتخثر بالكلمات بخلق مساحات من الصمت حول الأشياء». والشعر هو لغة النفوس الراقية في التعامل مع أحاسيسها، لأن ذوي العقليات الاستهلاكية من البشر لا يحسنون التعامل مع سحره المدهش، ولا تستطيع عقولهم فك شفراته الرقيقة التي تستعصي على أحاسيسهم غير الناضجة. قد يبدو عصرنا الحاضر أكثر ارتباطا بالعلوم التقنية والمادية من ارتباطه بموسيقى القصيدة، لكن عصرا كهذا يحتاج إلى جرعات مكثفة من الشعر أكثر من غيره، لئلا يفارق ما تبقى من إنسانيته، فينطفئ بهذا ضوء الحضارة الإنسانية التي بناها الخيال إلى الأبد.