إن إسقاط الأخطاء والهزائم والتشدد والتطرف الذي يعاني منه العالم العربي على الوهابية هذا الصنيع لا يمت للتاريخ أو درس التاريخ بصلة. فبيئة الدعوة أنبتت الدعوة، ولايمكن أن يقبل العقل أن الدعوة في بدايتها منبتّة عما حولها أعتذر لصاحب البيت الشعري الذي حورته قليلاً ليُعبر عما أنا بصدده. فأقول: ما أكثر الأقوال حين تعدها لكنها في الصائبات قليل هذا والله ما خطر ببالي وأنا أطالع عدداً يسيراً من الكتب الجديدة عن الوهابية. فالكلام كثير أكثر من صيد خراش المشهور، لكن الفائدة أو الصواب فيها قليل. ولم أجد تفسيراً لهذه الظاهرة الثقافية البائسة إلاّ أن تكون الوهابية(= الدعوة الإصلاحية السلفية) مصدر رزق. ولا أعرف ما الداعي لهذه الكتابات الباردة والمكررة، خصوصاً أن عصرنا هذا لم يعد كما كانت عليه العصور الماضية، فالحصول على المعلومة الصحيحة أضحى في متناول اليد. والوصول إلى الرأي المستقيم سهل. والتأثير على القارئ أصبح صعباً، لأن أمامه سبلاً عديدة. ناهيك عن أن شباب العرب هجروا أو كادوا يهجرون قراءة الكتب، وعوضاً شغلوا وقتهم بقراءات سريعة عبر التقنية الحديثة. إذن السؤال: لمن توجه هذه الكتب عن الوهابية. وما بال الوهابية شغلت الناس منذ القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي حتى يومنا هذا؟ الدكتور أنور عبدالله صاحب كتاب: خصائص وصفات المجتمع الوهابي السعودي، نشر مكتبة الشرق في باريس 2012م وهو أحسن ما قرأتُ من كتب الوهابية الجديدة، وسأنشر له مراجعة نقدية في حديث قادم. يقول: إن الوهابية سخرت من مقولة شائعة: التاريخ لا يُكرر نفسه. فقد كررت الوهابية نفسها كأيديولوجية وأسلوب عمل ثلاث مرات. وقد أثارت الغيرة والحسد في نفوس بعض الأسر السياسية الحاكمة التي لم تستطع استرجاع سلطتها مرة ثانية. هل هذا سبب مُقنع لتفسير كثرة الكتب عن الوهابية. الجواب في نظري بالنفي، ذلك أن تلك الكتب الحديثة لم تُعالج ظاهرة التكرار، ولم تُعن بمسألة الحسد والغيرة كما يذهب الدكتور أنور عبدالله. ما الجديد في هذه الكتب عن الوهابية؟ الحق لا جديد يستحق الوقوف عنده اللّهم إلاّ تشقيقاً لكلام بارد، وإتكاء على مقالات حديثة أغلبها مقالات سياسية أو اجتماعية ضئيلة الصلة بالدعوة السلفية، وما تمخض عن اتفاق المحمديْن في الدرعية من قيام الدولة السعودية الأولى. فالأفكار التي طرحتها الدعوة السلفية في فجر تاريخها لا تختلف عن الأفكار التي واكبت مسيرتها خلال الدولتين السعوديتين الثانية والثالثة. ثم إن إسقاط الأخطاء والهزائم والتشدد والتطرف الذي يعاني منه العالم العربي على الوهابية هذا الصنيع لا يمت للتاريخ أو درس التاريخ بصلة. فبيئة الدعوة أنبتت الدعوة، ولايمكن أن يقبل العقل أن الدعوة في بدايتها منبتّة عما حولها. وأمر آخر لا يقل سفاهة عن الإسقاطات الفكرية وهو اعتبار الأفكار الدينية المتشددة والمتطرفة السائدة في عالم اليوم هي وهابية المنشأ والأصل. وهذا افتئات ودعاية لا يقبلها الحصيف من الناس. فقد عرفنا وشاهدنا اليوم من حركات دينية متشددة لم تكن معروفة في فجر الدعوة السلفية ولا تمت للدعوة بصلة. مثل القتل بالدم البارد أو ذبح الإنسان كما تُذبح الشاة والماعز. أو الوصول إلى سدة الحكم بكل وسيلة بغيضة ولو اضطر صاحبها إلى الكذب والتزوير والبهتان، بينما الدعوة السلفية لم تعرف هذا البتة، ولا تقره وليس من أخلاق أهل نجد حيث ظهرت الدعوة. أنا لن أذكر عناوين أو أصحاب تلك الكتب التي أعنيها في هذا الحديث، لأنه ليس مرادي أن تنتشر أو تُعرف، وعلى رأي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله السكوت عن أصحابها أفضل من إشهار أسمائهم والدعاية لهم. ثم إنني لم أجد فيها ما يستحق الذكر. لكن ما لفت انتباهي هو كثرتها، فطفقت أفكر بصوت مكتوب يجد القارئ صداه في هذا الحديث. على أنني لا أتردد في ذكرها لو رأيت رغبة القراء الكرام. نعود لمسألة الاسترزاق. هذا ما خطر ببالي وعليه فلا يعدم أصحاب تلك الكتب الباردة من مردود مادي أو أدبي أو على الأقل شهرة زائفة. وسألت صاحب مكتبة مدبولي بالقاهرة عن مدى انتشار بعضها فقال لي إن المطبوع ألف نسخة من كل كتاب، وأنها تنفد ولكن ليس بالسرعة التي عليها الكتب في العقد الماضي. ولما سألته هل تُعاد طباعتها فأجاب بالنفي. وهو قال لي إن ما يُعاد طبعه وله سوق رائجة فهو المصادر الوهابية الأولى. وقرأت في بعض الصحف السيارة في مصر عن ربط متعمد بين الدعوة السلفية النجدية، وبين الأحزاب والجماعات السلفية المصرية وغير المصرية. وأنا أرى أن هذا ربط غير منطقي. فالدعوة السلفية بسيطة مثل بساطة صحراء نجد، ولا ترى فيها فلسفة معقولة أو غير معقولة، بينما الحركات السلفية في مصر مثلاً نبتت في بيئة مختلطة فكرياً، ومتصارعة أيديولوجياً. وهي متأثرة بالإسلام السياسي وبالحركات الصوفية، ومتأثرة بالخطاب السياسي والثقافي المصري المعاصر. والفرق بين السلفيتين فرق واضح لا لبس فيه..