لا يمكن أن أنسى موقف أحد الكتاب (المثقفين) عندما واجهه أحد الحاضرين لمحاضرة ألقاها في نادٍ أدبي، حيث كان التساؤل يدور حول ازدواجية الكاتب وتناقض طروحاته بين حين وآخر وذلك حسب الظروف "المحيطة"؟ فارتبك بشكل كبير خصوصا بعد أن أورد له السائل نماذج من طروحاته يظهر فيها التناقض بشكل صارخ، ولم يكن منه (الكاتب) إلا أن برر الأمر بأن النظرة للحياة والأمور تتغير من فترة لأخرى بناءً على "المعطيات المحيطة" وزاد بأن الشخص الذي لا يتغير هو "أقرب للجماد" حسب تعبيره وقتها. ومع أن مفهوم التغير وعدم الجمود الفكري أمر معلوم ومطلوب في أحايين كثيرة، إلا أن المشكلة هنا هي في تحول المثقف إلى ما يشبه (الأراجوز) الذي يقفز من حبل لآخر في زمن قصير، مما قد يعرضه للسقوط الذي لا نجاة منه إلا أن يشاء الله. فالمشكلة الكبرى لهؤلاء أنهم يقحمون أنفسهم في حبائل ومتاهات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، دون أن يكونوا مضطرين ولا مؤهلين لذلك، ولكنهم يفعلون ذلك إرضاءً لشهوة أو مصلحة شخصية آنية، قد لا تتعدى كلمة شكر من هنا أو من هناك. فلا أحد سيجبر كاتبا أو مثقفا ما؛ على أن يتحول إلى بوق سياسي مثلا يهلل ويطبل لأي خبر يسمعه أو يقرأه من أول سطر دون أن يعرف تفاصيله وخلفياته الحقيقية. لأن هذا الطريق كان حبل المشنقة الذي أُعدم عليه الكثير من الكتاب والمثقفين العرب بعد أن تحولت البوصلة السياسية أو الثقافية إلى اتجاه آخر قد يكون معاكسا تماما. فالمثقف بالضرورة ليس بمرونة السياسي الذي يستطيع تبرير أي تحول في المواقف والرؤى "بناءً على المصلحة الوطنية". لذا ولكي يكون المثقف صاحب مشروع فكري واضح المعالم، يستطيع من خلاله التأثير بشكل مستمر وعلى المدى الطويل في مجتمعه، يفترض به أن يتمسك بالموضوعية والمصداقية والتأني في إصدار الأحكام والروئ وألا ينجر مع أي موجة قد لا تتجاوز أياما وتموت في مهدها. وأن يتخذ من أسلوب التحليل العقلي المنطقي طريقا دائما له لا يحيد عنه مهما تعرض لإحراجات أو ضغوط من أي جهة. والأهم أن يحترم حتى المختلف معه إلى أقصى درجة ممكنة فلا ينجرف إلى الشتائم وتوزيع التهم المعلبة (كما يفعل البعض)، بل يدافع عن الفكرة فقط ويحاول مناقشتها بعلمية وموضوعية وشفافية بعيدا عن الأشخاص.