كتب الأستاذ خلف الحربي في عكاظ (21/6/1433ه) بعنوان: (الرشوة الحلال) ينتقد فيها بشيء من السخرية بالإضافة إلى ما أفتى به الداعية عبدالله السويلم بأنه يجوز أن يدفع المرء الرشوة لأخذ حق له أو دفع مظلمة عليه. مبديا استغرابه بقوله: (الرشوة حلال!! هل يمكن أن يصدق عاقل أن ديننا الحنيف يمكن أن يبيح مثل هذه الجريمة.. هل نحن في حاجة إلى الدخول في جدال فقهي طويل حول موقف الإسلام من الرشوة.. وبأي منطق لا يكون الراشي شريكا في الجريمة بينما يقع الذنب كله على المرتشي؟). ولو أجهد أي شخص نفسه قليلا وغاص في المراجع الفقهية ودخل في الجدل الفقهي الذي لا يريد أن يدخل فيه وهو خطأ منهجي خاتل، لوجدوا أن عامة المراجع الفقهية بل والتفاسير لآيات الله يجيز فحوى الفتوى التي لم تعجب أحدا وراحوا ينددون بها ويصفونها بالجريمة النكراء التي لا يقبلها عقل ولا نقل، وراح كل معترض يتشبث بحديث رسول الله (لعن الله الراشي..) من غير تفكر ولا تدبر ولا نظر.. بل لو تركوا الأحاديث والجدل الفقهي جانبا وأعملوا الفكر السليم لوجدوا أن هناك مواقف في حياة الناس قد تعرض لهم وتوجب عليهم ارتكاب المحرم لتحقيق مقاصد أكبر. وهل ثمة محرم أكبر من كلمة الكفر ؟! ومع ذلك فقد أباح رب العزة والجلال للعبد أن يتلفظ بها إن كان في هذا التلفظ حفظا للنفس. كما قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان..) وحديث (لعن الله الراشي ..) لا ينطبق إلا على من فعل ذلك لأخذ مال لا حق له فيه أو لإيقاع الظلم على برىء. قال ابن حجر في فتح الباري (5/538) الرشوة كل مال دفع لأخذ ما لا يحل له والمرتشي قابضه) وقال المباركفوري في شرح الترمذي (4/469) (.. فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ)، قال فأما ما يعطى توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه أي غير داخل في الوعيد الذي في الحديث. وجاء في شرح المشكاة (2/570) أن الرشوة هي ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل.. أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع به عن نفسه ظلما فلا بأس.. وذكر القرطبي (6/182) في تفسيره لقوله تعالى: (آكلون للسحت..) أن ابن منبه قيل له: هل الرشوة حرام في كل شيء؟ فقال لا، إنما يحرم من الرشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك. فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس حراما.. وذكر القرطبي (6/182) أن عبدالله بن مسعود أمسك به في الحبشة بغير حق فرشا القائم على حبسه بدينارين فخلى سبيله. وقال ابن مسعود إنما الإثم على القابض دون الدافع. وقال السمرقندي في التفسير (5/273) أنه لابأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وعرضه وماله بالرشوة. ونقل القرطبي (10/183) عن ابن مسعود قوله: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به. وذكر الطاهر في الوجيز (1/420) أن عمر بن الخطاب قال في رجل يقال له نهيث بن الحارث أخذته الفرس أسيرا فعرض عليه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وهدد بالنار إن لم يفعل فلم يفعل فحرقوه، فبلغ ذلك عمر فقال وما على نهيث أن يأكل؟ يعني أنه كان عليه أن يأكل الحرام حفظا لنفسه. وقال الحسن البصري (8/12) أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من الصحابة أسيرين فقال لأحدهما أتشهد أني رسول الله فقال نعم فخلى سبيله، وامتنع الآخر فقتله. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الذي شهد لمسيلمة أنه أخذ برخصة الله فلا تبعة عليه.. ولقد نهى الله المسلمين عن التودد وإظهار المحبة لأهل المعتقدات الفاسدة، ولكن إن كان في ذلك مصلحة للفرد والأمة أو دفع مفسدة فلا بأس في ذلك.. كما قال تعالى: «إلا أن تتقوا منهم تقاة» .. فالشاهد أنه لا ينبغي تعميم الوعيد الذي جاء في حديث (لعن الله الراشي..) على كل تصرفات العباد وسلوكياتهم دون الرجوع إلى الأدلة الأخرى وطرح المسألة تحت قوانين التعارض والتراجح.