هل تتغيّر الفتوى؟ سؤالٌ وجيهٌ قائمٌ على الاختصار؛ ولكنَّه يستكنُّ بالكثير من العوائق، والأتربة العالقة؛ وذلك في ظلِّ وجود بعض العلماء ممّن يحملون موقفًا معارضًا من ذلك التّغيّير؛ فكم من مفتٍ أقام فتواه على فحوى كُتب الفقه القديمة؟!، وكم من فتوى أضرَّت صاحبها، والسَّائل عنها؛ لأنَّها اتّكأت على ظرفٍ محددٍ، في زمنٍ محددٍ، وواقعٍ محددٍ؟! لن أطيلَ كثيرًا، فقد أتممتُ قراءةَ كتابٍ للعلاَّمة الدكتور يوسف القرضاوي، بعنوان (موجبات تغيّر الفتوى في عصرنا)، أحببتُ أن أشيرَ بما لا يضير الفكرة التي أرَيدَ إيصالها حول آليات تغيّر الفتوى، وموجبات تغيّيرها، مع ذكر أنموج يتصارع قومنا حوله. دعوني أوّلاً أذكِّر بموجبات التّغيّير؛ لأنَّ العلماءَ الأوائلَ، ومَن سار على دربهم ممّن يعيشون بين ظهرانينا، ذكروا أنَّ تغيُّر الفتوى تستدعيها أربع موجبات؛ هي: تغيّر المكان، والزّمان، والحال، والعرف. أمَّا صاحبُنا القرضاوي فقد أضافَ إليها ست موجبات؛ هي: تغيّر المعلومات، وتغيّر حاجات النَّاس، وتغيّر قدرات النّاس وإمكاناتهم، وعموم البلوى، وتغيّر الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وتغيّر الرَّأي والفكر. يسوق القرضاوي الكثير من النَّماذج العصريّة التي يستدعيها التّغيير، لهذا سأكتفي هنا بتغيّر فتوى عمل المرأة في مختلف المجالات، يقول: "وممّا عمَّت به البلوى في عصرنا، عمل المرأة في كثير من ميادين الحياة، ولا سيما بعد أنْ زاحمت الرِّجال في كلِّ أنواع التّعليم الجامعي، والدِّراسات العُليا، وأضحى من النّساء الطَّبيبة، والمهندسة، والمحاسبة، والإدارية، والاقتصاديّة، والمعلّمة، وخريجة العلوم والرِّياضيات، والأستاذة في جميع التَّخصصات، وأضحى كثير من النَّساء متفوقات في مجلاتهن المتنوّعة حتَّى إن منهن من يسبقن الرّجال، وهذا يتطلّب من أهل الفتوى خصوصًا المتشدّدين على النّساء أن يتخلّوا عن فكرة التّشدّد والتّضييق، وأن يُرحِبوا بعمل المرأة بضوابطه فيما تحسنه، وتتخصّص فيه من مهنٍ متعدّدةٍ وخاصَّة ما كان أقرب إلى طبيعتها، وإلى خدمة بنات جنسها". ثم لاحظوا ما يقول: "ولا يجوز تغليب خوف الفتْنة، والحكم بحبس المرأة في جدران بيتها، وهي قادرة أن تعلّم، وتطبّب، وتمرّض، وتملأ الفراغ في جوانب الحياة بكفاية، وأمانة، وربّما فاقت فيه الكثير من الرّجال". ثمَّ تأمّلوا ما يقول: "وكثيرًا ما يكون عمل المرأة لسد حاجاتها هي إذا لم يكن لها عائل، ولا مورد تعيش منه، وأحيانًا تلبية لحاجة أسرتها لعملها، كما قص القرآن قصة الفتاتين اللتين سقى لهما سيدنا موسى، وأحيانًا أخرى يكون المجتمع هو المحتاج إلى عمل المرأة، أو لحاجته إلى عمل ينبغي أن يقوم به النّساء لا الرجال؛ مثل: تعليم البنات، وتطبيب النّساء، والتمريض، وفي بعض الأقطار تقتضي ظروف الحياة، وضيق الموارد أن يعمل الزّوجان معًا؛ لإمكان قيام بيت يعيش بالحدّ الأدنى لما تحتاج إليه الحياة المعاصرة، فلا ينبغي الإصرار على المقولة المحفوظة: أنَّ المرأة خُلقت للبيت، وأنَّه مملكتها، فإنَّ ضرورات الحياة ومطالبها الجمَّة فرضت على المرأة أنْ تخرج، وأن تكدح من أجل أسرتها".