.. منذ أكثر من سنة وأنا أضمر الكتابة عن هذا الشاب الذي أشرف الآن على الخامسة والثلاثين من عمره، وبهيكله القليل وطلته الطازجة بعينين صافيتين واسعتين يبدو وكأنه أصغر بأعوام. لا أدري بالحقيقة لمَ أجَّلتُ الموضوعَ مع أهميته القصوى، وأهميتُه نابعة من أن اعتماد طريقته تنقل التعليمَ مراحل للأمام في فترة أقل من وجيزة .. ثم إن تضاعف وتوسع العمل يجعل من المكن أن تكون للأمّة آلاف المدارس وآلاف المعلمين ومن الممكن أن يصل إليها كل تلميذ وتلميذة بمجرد وجود مدخل للإنترنت. بدأت قصة الشاب عادية جدا.. يمكن أقل من عادية، وهذا ما تطرقتُ له في مقالة السبت الماضي التي كانت بعنوان "لو زارنا ضيوفٌ من الفضاء" بأن الأعمالَ الكبرى تبدأ من أعمالٍ صغيرةٍ وعاديةٍ من ناس عاديين وتتوسع إلى خرزات وتتسق الخرزاتُ في عقدٍ لامع يعمّ البلادَ وخارج حدود البلاد.. هذا تماما ما حصل مع "سلمان خان". ولكن، فرَض عليّ "سلمان" نفسَهُ ونزع فضلَ المبادرةِ مني، لأني أكتب عنه اليوم وهو قد اُختير من أكبر مجلةٍ دوليةٍ، مجلة "التايم"، كواحد من أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم، والتي كانت من ضمن قوائمها السعودية منال الشريف. سلمان خان قدّم بالفعل عملاً جليلاً للإنسانية، لم يكن يدور بخلده أبداً أنه وهو في مكتبه بوادي السيلكون بالولايات المتحدة، حين اتصلت به ابنة عمه المراهقة تطلب منه عوناً في شرح مادة الرياضيات وأرسل لها تفصيلاً للدرس وحلولاً وتطبيقات مع شروح بسيطة سهلة وبلغة رائقة تفهمها وتتمتع بها المراهقة، وأفضل أنواع التعليم ما يخلط مع المتعة التي تولّد التشوق الجميل للمعرفة، لم يتوقع أن العملَ الصغير سيتفجّر حجماً. أخبرت الصبيّةُ زميلاتها، وتداول الدرسَ عشراتٌ من الفتيات، ثم مع تعدُّد طلبات ابنة عمّه صمّم لها موقعاً يشرح فيه ما تريد، ثم وجد المفاجأة الكبرى.. آلاف تردّدوا على الموقع. أي آلاف من الطلبة والطالبات بمرحلة ابنة عمه استسقوا المعلوماتِ وهضموها وتمتعوا بلغة شرحه، ولطافة تقديمه للحلول.. ثم شاع الموقع وكبُر حتى صار أيقونة يتدافع عليها آلاف ثم عشرات الآلاف ثم مئات، مما جعل "سلمان خان" يعيد ترتيب وتجهيز وهندسة الموقع ليكون مدرسةً فعلية لمادة الرياضيات والهندسة الحسابية وعلوم متصلة نقلت حسبما سجّلته وسائل الرصد التعليمي بأمريكا نسبة الإقبال والنجاح في مواد الرياضيات بنسبٍ فارقة. صار اسمُ "سلمان خان" أشهر من أي مؤلف كتاب يحمله طالب أو طالبة بأي مدرسة أمريكية. سأقول لكم إن عظمة إنجاز هذا الشاب، لم تكن أهميتها الأولى نابعة من اختيار "التايم". دأبت "التايم" أن يكتب شخصٌ معروفٌ عن كل شخصيةٍ تختارها المجلة من المؤثرين دولياً من باقتها.. فمَن كتبَ وبفخرٍ عن سلمان؟ مَن يا ترى؟ واحد من أكبر الناس المؤثرين على الأرض الآن، ومن أغنى مَن عليها، وهو طبعاً – كما عرفتم- "بيل جيتس" المؤسس والرئيس التنفيذي السابق للشركة العملاقة مايكروسوفت. دعوني أنقل لكم ترجمةً ممّا قاله "بيل جيتس" عن سلمان خان: "نجح هذا الشابُ بوضع مكتبة علمية متخصّصة على الإنترنت مما قلب كامل العملية التعليمية من الصف الصغير إلى عالم التعليم الواسع على رأسه. أن الوهَجَ الإلهامي لموقع "خان أكاديمي khanacademy.org" نابعٌ من أنه يعطي فرصة حياة لكل طالب وطالبة بأن يتلقى أفضل تعليم من أفضل عقلية تملك موهبة التعليم وبمستوى دوليٍّ مرموق. في الموقع حتى الآن أكثر من 3000 درس مختصر ومكثف يساعد كل فتى وكل فتاة على التعلم مباشرة وبمجهوداتهم الذاتية بلا معونة من أحد. "يا سلام، أرأيتم ما قاله "بيل جيتس"؟ و"بيل" يقول هذا لا رياءً ولا نفاقاً فهو ليس محتاجاً إلى مائة دولار من خان! على أن "بيل جيتس" لم يقف هنا وأعطانا مثالاً واقعياً حاسماً، فيتابع: "لقد أشرفتُ على ابني وهو يستخدم موقع "أكاديمية خان"، وتعجبت من مقدرة سلمان المذهلة التفهيمية والإمتاع في الوقت نفسه، ولاحظت كيف أثر ذلك في ابني ورفع مستواه التحصيلي". الآن.. ما الذي يمنعُ معلمينا وخبراءنا المتخصصين بالعلوم من أن يكونوا نسخاً أصلية وبراقة من سلمان خان؟! وسنرى، كما قال "بيل جيتس"، أن آلية التعليم ستنقلب في البلاد على رأسِها.