حلة التشكّل العربي الجديد على المستوى السياسي تردّنا دائماً إلى زلازل الأسئلة، وهي أسئلة محمّلة بالمقاربات التي توصل إلى إجاباتٍ متسائلةٍ وليست مغلقة. الهزّات السياسية تشعّبت التفاسير حول أسباب اشتعالها بين العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ارتفعت بآمال الناس ثم هبطت بهم في هاويةٍ من غموض المصير. بين «التقدم» و«الثورة» تعثّرت خطى الجحافل المليونية، التي لم تذق طعماً لأي جهدٍ قدمته في الشوارع، حتى لكأن المرحلة وأهلها مجرد «حلم». حضرت الشعارات والأحلام والأوهام كبدائل غير محسوسةٍ لواقعٍ غير موجود أصلاً، وهذا شبيهٌ بالتشخيص الثريّ الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بورديار في أطروحته حول «موت الواقع» التي يقول فيها: «انتقل الواقع من كونه خارجاً أنطولوجياً أو موضوعياً وتحوّل إلى فكرةٍ تنتج داخل الآلة الإعلامية. إن العالم الواقعي انهار لصالح عالمٍ ما فوق واقعي، تتبادل فيه الأصول والأسماء والمعاني المواقع داخل حركةٍ دائمةٍ ومريعةٍ غير قابلةٍ للتنبؤ والفهم. هذا هو عالمنا، وهذا هو مصير العصر الذي سيحكمنا في العشريات القليلة المقبلة». بالضبط لقد تحوّل الواقع من كونه مرتبطاً بمكانٍ موجود إلى محتوى يتكرر في «المكائن»الإعلامية، أو الشعارات الحزبية، أو الذبذبات الصوتية، لقد اختفى الواقع، بل لقد «مات»! حال الجموع لم تكن أكثر من الاستجارة من رمضاء الديكتاتورية بنيران الأصولية، وهذه مشكلة تتعلق بمفهوم «التقدم» نفسه، الذي ناقشه بسخاء الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه الممتع والصادم «إلى أين يسير العالم؟» وهو جزء مقتطف من كتابه «من أجل الخروج من القرن ال20» الذي ألّفه سنة 1981 يطرح فيه مفردة «التقدم» لا بوصفها طريق خلاص، وإنما كإمكانٍ للانحطاط أيضاً. وهذا ما أشار إليه في فصلٍ عنونهُ ب«تقهقر داخل التقدم، وتقدّم التقهقر» جاء فيه: «أن فكرة التقدم هذه كانت فكرة ميتافيزيقية بالمعنى الحرفي، في اللحظة التي كانت تجهل القانون، أو بالأحرى مضادة لقوانين الفيزياء الأساسية، إننا نعيش في كونٍ حيث إن مبدأ الارتجاج والتشتت والفوضى يلعب دوراً مهماً. إن كل تقدمٍ مهدد بالانحطاط ويحمل في ذاته العملية المزدوجة الدراماتيكية للتقدم/التقهقر. التقدم هو وجه متقلّب من وجوه الصيرورة». لم تعد مفردة «الثورة» بحد ذاتها التي تتداول في الشارع والإعلام دالّة بحد ذاتها على جوهر الحدث العربي الحالي، ذلك أن الثورة كمفردة تحتاج إلى مراجعةٍ تتعلق بمعنى استعمالها في أحداث لا تمتّ إلى الثورة بصلةٍ. وفي سبيل تجديد المقولات الثقافية المتداولة أوروبياً، طرح إدغار موران فكرة «تثوير الثورة ذاتها ذلك أن الأمر: «لم يعد يتعلّق بتحقيق وعود التقدم، وإنما بتثوير هذه الثورة ذاتها، فالتغيير هو الذي ينبغي أن يتغيّر، وينبغي إعادة النظر بكلمة «ثورة» إعادة كاملة». لم تعد إشكاليتنا مع المشكلات، بل انحصرت معضلاتنا بالحلول. آلية الحل تخلق مشكلاتٍ مضاعفة، هذا ما دأبنا على تجريبه عربياً، إنها حالة من «التناوب على تجريب الفشل». كلما مرّ طيفٌ ظاهره فيه الرحمة، بيّنت الأيام أن في باطنه العذاب. وما أسهل تحويل الكوارث إلى إنجازات في لغتنا. كل الكوارث التي مررنا بها وكانت دموية تمّ تعديلها لغوياً. فاللغة العربية ساترة للأحداث التاريخية. والعورات التي تتبدى دائماً مع كل حدثٍ يُظنّ بنتائجه الفتح تسترها اللغة بمفرداتها الثريّة، تتحول الانقلابات العسكرية إلى «ثورات» والدولة «الأصولية» تصبح مدنية، والنكبة تلطّف لتكون «نكسة» وتبلغ ذروة الفخر اللغوي الفارغ حين تكون الحروب الأهلية «مخاضاتٍ» لولادةِ نورٍ طال انتظاره منذ قرون. وهكذا تستمر دورات الزمن المهلكة، والتي لا تسترها إلا التعابير اللغوية، وحقول تكرير التكاذب الاجتماعي «الجماعي».