تؤسس النصوص الدينية لمنظومة أخلاقية عليا ومطلقة، ويبحث الأفراد، والمجتمعات، في تكييفها الواقعي، وتبحث الدول، ورجال القانون، في تكييفها القانوني، وهذا التكييف يختلف من حال إلى حال، ومن ثقافة إلى أخرى، فالأخلاق لا تتغير ولا تتبدل في شكلها التأسيسي، الذي جاء به الوحي، وإنما البحث في تحويلها إلى واقع، يناسب تغيرات الزمان والمكان. تبحث المجتمعات المدنية عن مفهوم العلاقات الدائرة بين أفرادها، ومؤسساتها، وتياراتها، فكل طرف في المجتمع المدني مساو أمام القانون للطرف الآخر، وله الحق نفسه في الحصول على الفرص المختلفة، وله الحق في الوجود، والاعتقاد، وإبداء الرأي، ومن الطبيعي أن يجمع المجتمع المدني بين المختلفين، بل ليس من الطبيعي ولا الصحي، أن تُمحى الاختلافات بين الناس، من هنا ستنشأ أسئلة عدة، كيف يعامل كل طرف الآخر؟ وإلى أي حد سيُقبل التنوع والاختلاف؟ وما هو مفهوم قبول الآخر؟ وما هو مفهوم الإقصاء؟ وما علاقة السياسي بكل ذلك؟ وهل من المعيب أن يستقوي طرف ما على الطرف الآخر بالسياسي؟ هذه الأسئلة تعود بنا إلى ما قلته في بداية المقالة، كيف سيتم تكييف المنظومة الأخلاقية الإسلامية بما يناسب المجتمعات المدنية، التي تعد من إفرازات تغيير الزمان والمكان، وليس من المنهجية أن تُنتقى قصص من التاريخ، أو حادثة أواثنتان لعالم أو إمام أو فقيه، ويتم إسقاطها على الواقع، فواقع المجتمع اليوم يختلف عنه قبل خمسة قرون، وكذلك واقع الدولة الحديثة، يختلف تماماً عن الدولة التاريخية، لذلك يصبح من الممكن جدا، أن يتم الاستشهاد على الشيء ونقيضه من التاريخ. على أطراف المجتمع أن تصل إلى كلمة سواء فيما بينها، أن تنقد بعضها، وتتدافع فيما بينها، وأن تخرج (السياسي) من هذا التدافع السلمي المدني، لأن من يحصل على مراده ومكانته من خلال (السياسي) اليوم، سيفقده غدا، بالطريقة نفسها، ومن يقرأ التاريخ يعي تماما، كيف يتم إنشاء الصراعات وإطفاؤها، وكيف تتم تقوية طرف لزمن ما، ثم تقوية طرف آخر على حسابه، ليبقى المجتمع فاقدا للفاعلية. للمجتمع المدني طبيعته الخاصة الذي أفرزه العصر الحديث، ومن هذه الطبيعة أن تتدافع أطراف المجتمع فيما بينها، لتصل إلى وعي ورشد فكري، فلا يعد عيبا ولا خرقا أخلاقيا، أن ننقد بعضنا، سواء أكان النقد لينا أم قاسيا، أي أن أبين أخطاءك وثغراتك ومكامن الخلل في مشروعك، ومن حق الطرف الآخر أن يرد، وأن يستمر الرد، لا توجد مشكلة أخلاقية في ذلك، المشكلة حين تُطلق التهم جزافا دون أدلة، وحين يتم التخوين الديني بالتكفير والتفسيق، أو حين يتم التخوين الوطني بالاتهام بالتعاون مع جهات أجنبية للإضرار بالوطن. مما يخدش أخلاق المجتمع، بل هو في الواقع يهد أركانه، ويفقد ثقة كل الأطراف ببعضها، استقواء بعضها ب (السياسي)، ولا بد من توضيح المقصود من (الاستقواء)، وتوضيح ما هو مقبول في التدافع الاجتماعي، وما هو مرفوض أخلاقيا. تقوم الدولة الحديثة على سيادة القانون، ولكل قانون مرجعية، وحين تكون المرجعية هي (الشريعة الإسلامية)، فإن القوانين تُستمد من روحها ومقاصدها، فلا ضير إذن إذا تحاكمنا إلى قانونها،فالدعوة إلى تشريع القوانين، وحث الدولة على تفعيلها، والتحاكم إليها من التدافع الإيجابي، ولا يعد استقواء سلبيا. الاستقواء المذموم والمرفوض، هو تحريض السياسي بشكل مباشر وغير قانوني على طرف أو اتجاه أو فرد من المجتمع، وقد يكون هذا التحريض علنيا، أو سريا، لا فرق في الحقيقة بين الأمرين، لأن الفكرة واحدة، وتنبع من تصور واحد. وهذا التحريض المباشر، يقبله (السياسي) لوجود علاقة بين الطرفين، أو لمساومات يمكن إنجازها، أو لرغبة (السياسي) أن يكون الملجأ للأطراف حين تريد إنجاز عملها، وإثبات وجودها، وهذا هو الأخطر، فمن طبيعة الدولة الحديثة أن توضّح طريقة تشريع القوانين، وتجعلها متاحة لكل الأطراف، أي أن يعرف الناس تماما كيف يتم تشريع القوانين وكيف يتم تفعيلها، وثمة قضاء مستقل، يمكن التحاكم إليه باطمئنان، فإذا اختلت أحد هذه الأركان، وكان السياسي قادرا على أن يتمدد في المجتمع ويثبت قوته، اعتقدت الأطراف أن القرب منه، واللجوء إليه، هو ما يمكّن طرفا على آخر، وبالتالي تتسابق الأطراف إلى مد اليد له، والاستقواء به، وتجاوز وتناسي كل ما له صلة بالأخلاقيات، وهذا ما يتيح ل (السياسي)، أن يمسك بزمام المجتمع، وأن يفقده فعاليته، وبالتالي يفقده وجوده وشرعيته، وهذه النتيجة هي أخطر وأسوا ما يمكن أن تصل إليها المجتمعات المدنية. على أطراف المجتمع أن تصل إلى كلمة سواء فيما بينها، أن تنقد بعضها، وتتدافع فيما بينها، وأن تخرج (السياسي) من هذا التدافع السلمي المدني، لأن من يحصل على مراده ومكانته من خلال (السياسي) اليوم، سيفقده غدا، بالطريقة نفسها، ومن يقرأ التاريخ يعي تماما، كيف يتم إنشاء الصراعات وإطفاؤها، وكيف تتم تقوية طرف لزمن ما، ثم تقوية طرف آخر على حسابه، ليبقى المجتمع فاقدا للفاعلية.