يستفزني عادة أي كاتب أو مثقف أو رجل دين عندما يتحدث عن المجتمع السعودي، مستخدماً «نون المتكلمين» ليدبج عبارة مثل «تعودنا في مجتمعنا المحافظ»... أحاول أن أبحث عن مقاييس المحافظة في حديثه فلا أجد إلا هرطقة لا تستند على معيار... أتساءل هل يدرك هذا المتكلم أن «المحافظة»، على رغم نسبيتها واختلاف مفهومها من شخص لآخر تظل «خياراً شخصياً» للفرد... وأن المجتمع منظومة من الأفراد المختلفين في كل شيء حتى في طريقة لبس الزي التقليدي أحياناً؟! لماذا لا نكون أكثر صراحة مع أنفسنا، ونقول إن لدينا بعض الأنظمة والقوانين المطبقة على المجتمع يمكن وصفها ب «المحافظة»، ثم نعترف بأن هذه الأنظمة لا تدخل مع الناس إلى بيوتهم، ولا يحملونها في حقائب سفرهم وهم يعبرون أبواب المطارات باتجاه مجتمعات أخرى، يعتقد بعض أفرادها أنها مجتمعات محافظة أيضاً وفق مقاييسهم الخاصة. البعض يربط بين مصطلحي «المحافظة» و«الدين»، ما يعني أن الشخص «المسلم» يُعتبر «محافظاً» مقابل الشخص «اللاديني» مثلاً، لكننا نعرف أن بيننا، نحن المسلمين، لصوصاً وقتلة ومجرمين وفاسدين، ولدينا سجون تعج بالمقبوض عليهم في جميع أنواع القضايا المخلة بالشرف من دون استثناء، وفي الوقت ذاته نحترم سلوكيات اجتماعية جميلة موجودة في بلاد الغرب «الكافر»، كاحترام خصوصية الفرد، واحترام المواعيد، والصدق والأمانة في التعامل، وهذا يسقط الربط بين «المحافظة» و«الدين»، ويؤكد ما أسلفت من كونها «على رغم نسبيتها» خياراً شخصياً فردياً بحتاً لا يمكن تعميمه على مجتمع كامل، أو حتى على ثلاثة أشخاص يجلسون في مطعم أو مقهى ويعزون بعضهم في شباب مجتمعهم المشغول بمتابعة البرامج «الساقطة» في الفضائيات، بحسب اعتقادهم. البعض أيضاً يربطون بين «المحافظة» و«التمسك بالقديم»، وهذا القديم يعني العادات والتقاليد، وكل ما خلفه الآباء والأجداد من تركة ثقافية، على رغم أن هذه التركة حافلة بالأخطاء والمعايير المختلة أخلاقياً وإنسانياً، وهي تتجلى في الأمثال الشعبية التي تتداولها الأجيال، من نوعية «إذا سرقت اسرق جمل»، و«من صاحب العبيد يخسر ما يستفيد»، و«الكذب ملح الرجال»، وغيرها، فالموروث الاجتماعي العربي بشكل عام مليء بالأمثال التي شكلت خريطة طريق استخدمها القدماء في إدارة شؤون حياتهم تحت ضغط ظروف بيئية واجتماعية واقتصادية معينة... وفي هذه الحال يعتبر ربط «المحافظة» بالتمسك بالقديم ضرباً من البلادة والانكفاء على الذات، والعجز عن مواكبة العصر، والفشل في إنجاز حراك ثقافي واجتماعي عصري و«إنساني» قبل كل شيء... أي باختصار «المحافظة» تعني «التخلف الثقافي». إن التجريم الاجتماعي للمختلف سلوكياً عن الغالبية في مجلس ما، أو مدينة، أو دولة، لا يمكن أن يخلق في نهاية المطاف إلا أفواجاً من «المنافقين» لا «المحافظين»، ف«النفاق» مجرد موقف حيال الضرورة، وهذه الضرورة تصنعها القوانين والأنظمة، سواء كانت على مستوى الدولة، أو الأسرة، ولكي يكون الوصف ألطف قليلاً يمكننا استخدام مصطلح «متحافظين» بدلاً من «منافقين»، ونتساءل كم نسبة «المتحافظين» في المجتمع؟ وهل هناك مجتمعات «محافظة» ومجتمعات «متحافظة»؟ وما تصنيف «مجتمعنا» بينها؟... طبعاً هذا ما سنصل إليه حتماً إن استمررنا في الهرطقة واستخدام «نون المتكلمين» للحديث عن المجتمع.