تظل الحرية أهزوجة جميلة نتغنى بها دوماً ونتمثلها بمقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، نصورها في أذهاننا بطائر جميل خرج من قفصه محلقاً في الفضاء الرحب، نتعاطف مع كل حر كسر قيده وتسيل دمعاتنا عند سرد حكايته. ومع هذا فالحرية لها معنا معنى غريب عجيب، فبقدر عشقنا لها وغرامنا بها تجدنا نخشاها ونخاف منها!! نضع الحرية ضمن المعاني الجميلة ونحاربها في نفس الوقت، نتغنى بالأحرار ونمجدهم وفي المقابل نصف من يسلك مسلكهم بالمجنون المتهور !! وإنك لن تجد مثالاً أوضح في الخوف من الحرية والهرب منها كما تجده لدى الشعوب العربية التي أسقطت جمهوريات الاستبداد وتخلصت من نيران المستبد وسجونه، فبرز من بين هذه الشعوب من يبحث عن مستبداً آخر يسلمه زمام حريته، يفكر عنه ويتخذ القرارات ويسيره كما يشاء. هذا الخوف من الحرية ليس مرضاً اختصت به المجتمعات العربية والشرقية دون غيرها، بل هي محنة ابتلي بها الإنسان في العصور القديمة ولم يزل الإنسان الحديث في كل المجتمعات مصاباً بها، وسبق لاريك فروم الكاتب الألماني أن كتب في العام 1942م كتابه الخوف من الحربة واضعاً فيه ملامح عجز وحيرة الطبقة المتوسطة في ألمانيا في تلك الفترة وهربها من الحرية إلى الاستسلام والانقياد لتسلط واستبداد هتلر. لقد بين فروم في كتابه كيف كان الملايين على استعداد للتنازل عن الحرية في سبيل الحفاظ على مصالحها الخاصة وكيف كان الملايين على استعداد للتضحية بالحرية التي ضحى الملايين بأرواحهم من أجلها فقط للتخلص من أي شعور بالمسؤولية. إن استقراء بسيطاً في مجتمعاتنا العربية سيوضح لك أسباباً عدة لهذا التخوف من الحرية أجد أن من أبرزها الخوف من تحمل مسؤولية القرارات. فالحرية تعني المسؤولية والحرية تضع على عاتق الإنسان مسؤولية كل خلل ونقص، بينما العبد لا يتحمل إلا مسؤولية ما كلفه به سيده مؤدياً منه الحد الأدنى. ولهذا يستمتع فاقد الحرية بأن يلقي كل عيب ونقص وخلل على شماعة المستبد مخلياً نفسه من أي مسؤولية. وكان من أسباب تخوف الناس من الحرية نجاح المستبد بالربط بين الحرية والرذيلة والحرية والانحلال وقدرته على الجمع بينهما وربطهما بوعي الناس حتى يستمر في استبداده. لقد كان المستبد سواء كان سياسياً أو عالما شرعياً أو مفكراً ثقافياً أو صاحب وجاهة اجتماعية مضطراً للبحث عما يخوف به الناس حتى يستمر في استبداده وتفرده بالرأي، ولن يجد أحسن من تهديدهم بفقد الأخلاق الرفيعة والقيم النبيلة التي أجمع الناس على المحافظة عليها لو فكروا في الحرية، وكان ما سطره عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد في فصل الاستبداد والأخلاق أبلغ رد على هذا الوهم.