لقد وُجدت في عدد من مواقع التواصل الاجتماعي على مدى العام المنصرم، وحين أتحدث عن عوالمها، فأنا أتحدث بتجربة لصيقة لما يحدث في مجاهلها من تواصل، ومن سواه. وقد يكون من المفيد أن أقوم بالتنويه عما شهدته هناك، من خير وشر، ومما قد يكون أصابني بخيبات أو انتصارات. ففي البداية لا بد من التنويه إلى أني قد استفدت كثيرا من النواحي الإعلامية، وأني قد انتشرت بشكل أكثر حضورا مما سبق دخولي لعوالمها، وأن وجودي كان مثمرا من نواحي امتلاكي للقلم، والمتابع، والمجال، والحرية التامة لكتابة ما أريده وقتما أريد، وبدون أي رقيب، غير وازع الضمير. ولا أنكر أني قد وجدت منابر ثقافية، إعلامية أتواصل من خلالها مع زملاء مهنة الأدب والكتابة والإعلام، والتي لم تكن تتهيأ لي نظرا لبعدي العملي عن تلك المجتمعات، فكان أن حصلت على خلاصة من انتقيت التواصل معهم، وقد كسبت من خلال ذلك العديد من الصداقات الإعلامية، التي ما كانت لتكون لولا هذه المواقع. ومن الناحية الفكرية، والمعرفية، فقد دخلت في حوارات، معظمها مفيد، وعرفت كيف تدار الحوارات على مختلف المستويات الاجتماعية والفكرية، وأنك ومهما بلغت من الفصاحة، والنزاهة، والعلم، لا بد أن تجد من يعارضونك، ويشككون في نواياك، ويزيد إيمانك بأن الفكرة الأحادية المنظور غير موجودة على أرض الواقع، وليس فلسفيا فقط. أما من ناحية المساوئ، فقد كنت حريصا أيما حرص على إقلال التواصل من خلال المحادثة، لما كان يحدث فيها من عبث، وما كان يختلط بحسن نيتها، من شر، وتربص، ومحاولات لإيقاع الغافلين، وفضحهم بطرق يندى لها الجبين. فالمجال مفتوح فيها للجميع، من سن الطفولة الغضة، إلى سن الشيخوخة والهِرم، وتخيل كيف يمكن أن يكون طرفا الحياة والموت صديقين حميمين، يتجاذبان الحديث والفضفضة واللوعة والشكوى من خلال المحادثة المنفتحة في منتصف الليالي! وما يزيد من الغموض، أن الأغلبية العظمى يستخدمون أسماء مستعارة لا تدل بالتأكيد على كنههم، وصور وهمية كاذبة، مما يزيد مناطق البلل طينا، فتكون المحادثة منطلقة، عارية عن الحياء، ومليئة بالتحويرات النفسية المريضة. وفي تلك المناطق، كذب، ونفاق، وتحريض، وتشكيك، وإغواء للصغار، ويحدث ما لا يمكن تصديقه. فكثير من المشتركين، وخصوصا ممن يستخدمون الأسماء المستعارة، يكونون محرومين معقدين، مطلقين، أو عوانس، أو من الجنس الثالث، أو مهملين عائليا وزوجيا، أو مدمني مخدرات، وبمعنى آخر أنهم يفتقدون للثبات والحياة الخاصة النقية الواقعية. وللأسف فإن التمييز بينهم يكون معجزا، ويحتاج للتيقن. وفيهم من يستخدم الدين كغطاء لشخصيته المهلكة بالإغواء، فتجد أن موضوعاته، اليومية المليئة بالدعاء، والنصح، والخير، تتعارض، كليا مع ما يبثه في خفايا غرف المحادثة من سموم. وشريحة أخرى تتعجب من مقدرتها المستمرة على نشر الكره والبغضاء والعنصرية، بين الناس، فهم يكرهون هذا لدينه، وهذا لمذهبه، وهذا لفكره، وهذا لفئته، وهذا لشكله، وهذا لوطنه، وهذا للونه، وهذا لانتمائه الرياضي. وفئة أخرى منافقة، تجدها تمتدح المسؤولين وتتملقهم مهما عظمت أخطاؤهم، حتى تكتشف أنهم يعملون ضمن طاقم مكاتبهم الإدارية. وفئة أخرى تعيب كل جميل، وتشجب كل إنجاز، وتهيل كتل السواد على أي بياض من حولنا. ويوجد بتلك المواقع نوع من ثقافة الشارع المسطحة، بالألفاظ المستحدثة، وبالحروف المهجنة، بمختلف اللغات، التي يفضلها المراهق، ولا يدري أنها تقوم بتشكيل شخصيته المستقبلية، بشكل منحرف. مواقع التواصل الاجتماعي مستنقعات تزخر بالحيات والضفادع، والبوم، ولكنها أصبحت لغة التواصل، ومهما حاولنا البعد، ومنع أبنائنا عنها، فإنها تظل ضرورة ملازمة للعصر. وما يجهله الكثير منا أنها محصنة من النواحي التقنية، فيمكن للأسرة بزيادة الوعي، توجيه الطفل، وتأهيله لكيفية استخدام تقنية الحماية، فيوجد بها الكثير من الخيارات والخصائص، التي تحمي المستخدم من الوقوع ضحية للمتربصين. بتحديد عدد الصداقات، ومن يتم قبول الرسائل منهم، ومن يطلع على المحتوى والصور، ويمكن منع التواصل بواسطة الكاميرات، ويمكن عمل مجموعات متكاتفة خاصة للتواصل، تضم خليطا من الأهل والأصدقاء، حتى يتم رصد أي مخترق للنظام، وبذلك ننتشل أبناءنا من شرورها، وبدون أن نحرمهم من فوائدها، وضرورتها للعصر، الذي نعيشه، وللعصر القادم، الذي لا نعرف كيف ستكون قفزاته التقنية والمعرفية. التقنية تحتاج منا إلى وعي، وإلى متابعة لما بين أيدي أبنائنا الصغار، من أجهزة ذكية، لا نريد أن تصيبهم بالعزلة، والخوف، والتحطيم النفسي، والمعنوي. لنكن معهم يدا بيد في الدخول للعوالم الجديدة، ولا أن نتركهم يسيرون منفردين، لأننا لا نعيش في عالم ملائكي.