قال القضاء كلمته، وآن للقراء أن يقولوا كلمتهم، فالمعرفة تبدأ بالقراءة، بل إن الحق تبارك وتعالى افتتح الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالقراءة، وما القراءة إلا لشيء مكتوب يفرغ فيه الكاتب جهده الذهني، ويضع في ثناياه خلاصة أفكاره، فيتميز عن غيره بمؤلَّف يستحق الحماية القانونية، ويفرض على من أراد الاقتباس أن يحدد المصدر لمعلومته حتى يوثق مؤلفه ويصونه عن الصياغة الإنشائية، فالكتاب ليس قصيدة شعرية يعبر فيها الكاتب عن عواطفه ومشاعره بلا ضوابط ولا لوم عليه مهما أسرف في ذلك، وهذه الحقيقة العلمية تغيب عن كثير من مؤلفات تروج في سوق الكتاب السعودي. ومن المؤسف حقًّا أن تنحصر بعض جهود التأليف في الاستنساخ للأفكار بشكل يصل حد التطابق، ولا يتم وصفه بما هو عليه في الواقع، فهذه لا يُعرَفُ لها نظام حماية حقوق المؤلف سوى وصف السرقة والاعتداء؛ لأنه مهما أجريت من عمليات تجميل وإعادة إخراج وتغيير في العناوين، فإن اللب واحد، فهو ليس من بنات أفكار المؤلف، بل هو هجين يريد المؤلف استيلاده من كتاب آخر وتقليد أعمى لا يضيف شيئًا في المكتبة العلمية، ولا يقدم سوى نسخة مختلسة وفكرة مكررة تفقد الكتاب الأصل قيمته من بين يدي القراء الذين يتساءلون عن سبب كل هذا الشبه، فهل يقتنع القراء بأن ذلك مجرد توارد للخواطر. لقد أسرفنا على أنفسنا في تجاوز ضوابط الأمانة العلمية، فهناك من ينظر إلى الكتاب على أنه شيء مباح يشترك فيه الناس عنوة، كما يشتركون في الماء والكلأ والنار دون حق للمؤلف الأول في الدفاع عن فكرته المختطفة، وانقاد الكثيرون في ظل ترويج غير واعٍ لما فعله الأقدمون من نسخ لبعض مؤلفات من سبق قبل ظهور فكرة حماية حقوق الملكية الفكرية، متناسين أن من شروط اكتساب الحق المشروعية وليست الممارسة، فما هو الفرق إذًا بين أولئك وبين من يتبنون الميكافلية، فالغاية تبرر الوسيلة، وهذا كافٍ في تحقيق عنصر المشروعية لديهم. إن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ومن أراد الحق فعليه أن يكون خصيمًا لنفسه؛ ليضع ذاته في مكان من يطلب حماية فكرته ونفي التقليد والتزوير عن مؤلَّفه؛ لأنه أيضًا في موقف يثير الشبهة، فمن قلد الآخر ومن تعدى ضوابط التأليف، وكم من مؤلف يخطر في باله البحث عن شبيه في عنوان مؤلفاته ليكتشف إن كان قد سطا عليه الوراقون في غفلة من رقيب لا يستطيع أن يوقف المد في جنح الظلام. نعم "هكذا هزموا اليأس" عندما أراد المنظمون أو المقننون التشجيع على الإبداع الفكري مع ظهور الطباعة وانتهاء عصر الوراقين الذين لزموا المناضد في كد وكدح للنقل والقص واللصق حتى يخرجوا نسخة واحدة لا تتناولها الأيدي. بل هي اليوم مخطوطات، منها ما هو مفقود، ومنها ما هو موجود، ومنها ما حاز الشهرة فتحصن مع مرور الزمن عن أن يكون كلأ مباحًا. نعم، إن القضية مبدأ وليست مبلغًا من المال، فالقراء هم أصحاب الحق؛ لأنهم من يدفع قيمة الكتاب أولاً، ولأنهم ثانيًا المستهدفون بكل هذا النتاج الفكري المكرر، ولو صح لهم أن يؤلفوا كتابًا لسموه "لا تفعل" ولوقعوه بالأحرف الأولى لأسماء ملايين القراء ممن يحرمون من كتاب نافع أو رواية جديدة، ليتم حقنهم بالغث من الكلام المسروق محتواه، ولعل العذر أقبح من الذنب، فليس القانون محلاً للمساومة أو الدعوة إلى مقابلة السرقة بمثلها، فالدعوة المفتوحة للأخذ من كل تلك الكومة من المؤلفات لن تغري من يعرف ماذا يقدم للقراء، كما أن من يعرض هذا التسامح لن يُقبَلَ منه ولو أنفق ملء الأرض ذهبًا؛ لأنه فاقد للإبداع وفاقد الشيء لا يعطيه.