لا أحد يستطيع أن يجزم بما يريده المثقفون تماماً: هم بالطبع يطالبون في كل فرصة تتوفر لهم، وتطلعاتهم قد بلغت عنان السماء، ولكنهم في حالة من التذمر لا تنقطع وإرضاؤهم غاية من المستحيل أن تدرك. وكلما تحقق لهم مطلب لا يمنحون أنفسهم فرصة الفرح بما يتحقق، بل يزداد نفورهم منه وكأنه أمر قد فرض عليهم غصباً، ثم هم يتلفتون بحثاً عن المطالب الأخرى التي لم تتحقق بعد ليجدوا موضوعاً لتبرمهم واعتراضهم. أراد المثقفون وزارة للثقافة فكان، ثم انبروا ينتقدون أداءها بلا هوادة. أرادوا أندية يرتادونها ويمارسون فيها أنشطتهم الإبداعية فكان، ثم هجروها مدعين أن الزمن قد تجاوزها وأنها لا تتناسب مع توجهاتهم المعاصرة. أرادوا أنشطة وفعاليات متنوعة فكان، ثم قاطعوها وادعوا أنها مملة ولا تشبع اهتماماتهم. وأرادوا انتخابات لجمعياتهم ولأنديتهم الأدبية فكان، ثم عزفوا عنها وترفعوا عن عضويتها. وأرادوا دوريات تطبع إبداعاتهم فكان، ثم تكاسلوا وتمنعوا عن الكتابة فيها وعن قراءتها. أرادوا قناة ثقافية تكون بمثابة منتدى خاص بهم فكان، ثم أهملوها وسلقوها بألسنة حداد. أرادوا أمسيات خاصة بهم فكان، ثم حضر كل منهم أمسيته الخاصة وغاب عن أمسيات غيره. أرادوا مزيداً من الدعم المالي فكان.. أرادوا ملتقيات ومؤتمرات فكان... لكن سقف المطالب يظل يعلو ويعلو ونبرة التبرم والتذمر تعلو معه. كلمات الانتقاد اللاذعة لا تنتظر الأنشطة التي تنظمها الوزارة، بل تسبقها وتتنبأ بفشلها، فالرسالة التي تتلقاها هي: لا تتعبي نفسك فلن يعجبنا شيئا، وسنظل نعترض! ولنأخذ مثلاً ملتقى المثقفين المقبل علينا، وهو من المطالب التي يصر عليها المثقفون، فما أن أعلن عن قيامه حتى تسارع الاعتراض على تأخره عن موعده فالمفترض أن يعقد بشكل منتظم، فإن لم يعقد تأففوا وإن عُقد تململوا، فالمثقفون لا يعدمون وسيلة للتعبير عن امتعاضهم. وما أن ظهر جدول جلسات الملتقى حتى انطلقت الانتقادات: فهذا حمود أبو طالب مثلاً يصرح بأن الملتقى بعيد عن الواقع والاحتياجات، ويرى أن الفعاليات «كان بالإمكان أن تكون أفضل لو تم الإعداد لها بأناة وشارك الجميع في وضع التصور المناسب لها». النصيحة الوحيدة التي يقدمها د. أبو طالب هي ما يكرره فيما بعد: «أن يتم أخذ رأي الوسط الثقافي في المواضيع والمحاور التي يراها جديرة بالنقاش». (عكاظ السبت 16-12-1432ه). هل صحيح أنه إذا تم إشراك (الجميع) في وضع التصور، وأخذ رأي الوسط الثقافي (بأكمله) سيكون هذا الملتقى محموداً؟ وبغض النظر عن إمكانية حصر الجميع في كل الوسط الثقافي، فإن العمل الذي لا يخصص له مجموعات محددة لا يمكن أن ينتهي أو يصل إلى شكل منضبط. وبالمناسبة، فإن الوزارة تضع فقط المحاور الرئيسية التي تحدد مجالات عملها الثقافي، والإطار العام لجدول الملتقى هو نفسه المطروح في الملتقى الأول: المسرح والطفل والجوائز والمكتبات والفن التشكيلي والموسيقى والفنون الشعبية... أما المواضيع والأوراق داخل كل محور، (والتي لم يعلن عنها بعد فكيف عُرف تكرارها؟)، فهي من اختيار المثقفين أنفسهم، بمعنى أن الوزارة لا تشترط فكرة معينة، بل تترك الحرية لصاحب الورقة أن يختار مدخله ويعطي رؤيته في ذلك المحور. وبذلك يتضح أن معظم المثقفين قد شاركوا بالفعل وأدلوا بآرائهم التي يرون أنها جديرة بالنقاش من خلال الفعاليات، وعليه فإن المطلب الذي وضعه الدكتور أبو طالب قد تم تحقيقه أيضاً. وتتوقع وضحاء آل زعير بسوداوية قاتمة أن يكون الملتقى القادم مجرد «حفلة كلام مكرور وحديث مهدور... دونما حراك حقيقي، ثم تتأسى على التوصيات إياها التي بقيت» حبراً على ورق»، وهي تتصور أن الوضع سيكون أفضل لو هدم الملتقى آلية الطرح فيه، فبدلاً من «الندوات والمحاضرات التقليدية» تقترح «تنظيم ورشات عمل حقيقية تنتج أفكاراً حقيقية قابلة للتنفيذ» (الثقافية، الخميس 22، ذو القعدة 1432). لكن معيار «الحقيقي» و»الحقيقية» يظل عائماً، فكيف نقيس ما هو مصطنع من الطروحات؟ وهل ستتغير محتوياتها فتصبح «حقيقية» لمجرد أنها داخل ورشة بدلاً من محاضرة؟ أما مكاشفة د. محمد العوين للملتقى ذاته فترفع راية اليأس عالياً وتعلن أن ثقافتنا في مأزق مزمن وحالة من الكساح لأن مطالب المثقفين في الملتقى الأول لم يتحقق منها أي شيء، فيعدد تلك المطالب المجمدة: مجمع اللغة العربية ورابطة الأدباء وصندوقهم وآلية تنظيم المشاركات في الأنشطة الثقافية في الداخل والخارج، ونظام تفرغهم للبحث العلمي والإنتاج الأدبي ودعم الكتاب وتهيئة السبل لانتشاره في الداخل والخارج وطباعة الرسائل العلمية المتميزة وجائزة الدولة التقديرية في الأدب وتكريم المتميزين من الأدباء والمثقفين والباحثين. هذه المطالب الضخمة كلها حيوية وجوهرية لا جدال في ذلك، لكن ألا تحتاج لوقت طويل كي تخرج في شكلها النهائي؟ ثم هل يعقل أن تتقلص مهمة المؤتمرات إلى مجرد الخروج بالتوصيات على شكل المطالبات التي إن لم تتحقق تصبح المؤتمرات باطلة ولا جدوى من ورائها، وتتحول إلى «تظاهرة إعلامية فحسب، ولقاء تعارف فحسب، وورقات تنظير تلقى بكسل ثم تنسى»؟ (الجزيرة السعودية الخميس 14 ذو الحجة 1432). وقد يتبادر إلى الأذهان أن هذه القائمة الطويلة من المطالب جاءت نتيجة للأوراق والمواضيع التي طرحت في المؤتمر الأول. هذا غير صحيح، فالأوراق لم تناقش هذه المطالب ولم تدخل في تفاصيل تفعيلها ولا أعطت تصورات لتنظيمها. ما حدث تماماً هو أنه في نهاية المؤتمر شعر المثقفون أنه لا يليق بهم الخروج من الملتقى دون توصيات، فاجتمع نفر منهم وصاغوها، ثم تم سؤال الآخرين عن رغبتهم في التوقيع عليها دون حتى أن يقرأوها، فمنهم من أعطى موافقة شفهية ومنهم من امتنع، وأنا على ذلك من الشاهدين. كل هذه القتامة والسخط على ملتقى لم يعقد بعد لا تؤثر في الرغبة المتوقدة في حضوره، فالحصول على دعوة من الوزارة يترأس كل المطالب. فالمثقفون لا يجدون أي قيمة تذكر لهذا الملتقى، لكنهم حين لا يحصلون على دعوة لحضوره تنهال الاعتراضات والتبرمات، وهذا ما عبر عنه محمد المزيني بنقده لسياسة توزيع الدعوات: «فالسلطات الثقافية تقوم بتوزيع المكرمات (الدعوات) على المميزين «المنجمون» بفرز خاص فتصلهم بلا أدنى شك أو ريبة كركن من أركان الإيمان!» بينما يهمش غيرهم، ثم يعود في نفس المقال إلى التقليل من شأن الملتقى والتنبؤ بخيبته. (الحياة، الأربعاء 12 أكتوبر 2011). حتى أولئك «المنجمون» سيشعرون أنهم متميزون ولذلك تمت دعوتهم، وسيباركون الملتقى بتواجدهم البرّاني، أي أنهم سيشرّفون ردهات الفندق وصالات المركز، لكنهم سيضيقون ذرعاً بالمحاضرات ويعتزلونها كالعادة، ثم يعاودون انتقاد الوزارة والتبرم بشأن كل مطلب لم يتحقق، فلا حمداً ولا شكورا.