من شواغل التفكير في حياتنا المعاصرة - وفي عدة مستويات -، إشكالية: (الثقافة الورقية في زمن الإعلام الرقمي). وبمعنى آخر التنافس بين وسيط المعرفة التقليدي العريق: الكتاب، ووسائطها الجديدة: منجزات ثورة الاتصال الحديث بأنواعها كافة. التي خلقت فضاءات جديدة للإنتاج والتلقي التفاعلي والتداولي في مجال المعرفة. أفادت منها الأبحاث العلمية كما الباحثين. وجسَّرت سبل التواصل والتفاعل بين الثقافات الكونية. وكانت هذه الإشكالية مناط اهتمام باحثين كُثُر، وموضوعاً لأطروحات متعددة، تبحث الإشكال في أعماق الوعي الإنساني، وعبر مسيرة الإنسان الطويلة وعلاقته بالمعرفة والكتاب. ومن خلال نظم ومناهج بحث وحقول معرفية متعدّدة، وثمة أبحاث قيِّمة في هذا الموضوع. كما أنّ هناك أبحاثاً أفرطت في التفصيل في نظريات الاستقبال، وأنظمة التلقي الحديث، بموازاة سلوك الإنسان المعاصر في ظل الثورة المعلوماتية ووسائلها المتعدّدة. وكان من آخر ما طالعته في هذا الموضوع، محاضرة مكتوبة لأديب له تجربة مع الكتابة والكِتَاب، والكُتَّاب، تجربة طويلة جعلته يتناول القضية بشكل ميسَّر وحميم. فالعنوان أعلاه كُتيِّب للأستاذ حمد القاضي. الورَّاق الشهير، حبَّر من خلاله رؤيته لهذا الموضوع، وحرَّرها وفق نهج ارتضاه؛ إذ تحدث عن العلاقة النفسية والوجدانية بين الإنسان والورقة في موروثنا الثقافي، واستدامة هذه العلاقة وحتمية بقائها، غير منحاز إليها بشكلٍ يلغي أهمية الوسائط الجديدة للقراءة، وكان توفيقياً - بوعي - في الجمع بين المسارين. كما تحدَّث عن رسالة الكلمة وتحدياتها. كما دعم رؤيته بمقولات وإحصاءات تعزّزها وتؤكدها، بأسلوب اتضح من خلاله طبيعة هذا الكتاب، حيث كان في الأصل محاضرة ألقاها في منشط ثقافي، وبرزت فيها نبرة الإلقاء الشفهي وذلك لا يقلل من قيمته بحال. ولعلِّي أقارب الفكرة التي عبَّر عنها المؤلف الكريم، بأنّ الوسائط الحديثة في بعض أحوالها، وبقدر ما سهَّلت الوصول إلى المعلومة بقدر ما اختزلت مقدماتها وسياقاتها، وغيَّبت المكابدة الجميلة في البحث عنها، وفصلتها عن منظومتها. ولاسيما لدى المهتمين والمهمومين بتخزين المعلومات وحفظ الأرقام، وفي ذلك سبيل إلى مآل بائس، يتمثل في ادعاء تكوين المعرفة وامتلاكها وتصديرها. وهضم لحقوق مكوِّنيها الحقيقيين والباحثين في أصولها ومجالاتها، كما يتمثّل في جيل تتأصل السرعة في مزاجه السلوكي، وعقيدته التربوية ووعيه التكويني فهو جيل الأكلات السريعة، والمعلومة السريعة، والعلاقات الإنسانية أو الإلكترونية السريعة. وإذا ما كانت ثورة الاتصال الرقمي من أهم منجزات عصرنا العلمية التي قدَّمت للبشرية منتجاتها العظيمة الفائدة؛ فإن ذلك كان مشوباً بتقليل فاعلية الإنسان، ولاسيما لدى الشعوب المستهلكة - كشعوب عالمنا الثلث - التي تستهلك التقنية والمنجز دون أن تسهم فيه، وتستغله دون أن تتساءل عن الفلسفة العظيمة التي أنتجته. وتظل أبداً تقتات على منجز الآخرين.