يثبت تاريخ الفكر الإنساني المدون منذ العصر الإغريقي وما قبله أن المفكر والمثقف أو المبدع في أي مجال، كان في جدل دائما مع السياسي حول قضايا الحرية والإنسانية، ولكن هذا المفكر"الحقيقي" وفي جميع العصور تقريبا لم يكن داعيا للعنف أو القتل، بل إنه على الدوام كان الضحية، فكم من مفكر قتل شر قتلة تحت ستار الدفاع عن مبادئ الكنيسة في العصور الوسطى" المظلمة" في أوروبا، وكم من فيلسوف إسلامي قتل في مختلف الدول الإسلامية بغطاء ديني والأمر في حقيقته وفي كل الحالات "إسكات سياسي". لاشك أن تضارب المصالح وامتزاج الطموحات الشخصية بالحقوق المشروعة، أوجد حالات كثيرة على مر التاريخ، شبيهة بالحالة العربية الحالية التي تتفاوت النظرات لها، فهناك من يراها "ربيعا" للتغيير الإيجابي، وآخرون يتوجسون منها ويعتقدون أنها مجرد مؤامرات و"فتن" يجب الحذر منها، ولهذا نقرأ كثيرا عن أن بعض علماء المسلمين "اعتزلوا الفتن التي حدثت في عصورهم" أي أنهم لم ينضموا لا لهذا ولا لذاك لأن في الأمر شبهات، وأهداف لم يوقنوا سلامتها. الأمر ذاته يحصل الآن لكثير من المثقفين العرب، حيث نجد بعضهم اعتزل الاندفاع مع أي طرف وحاول قراءة الأمور بموضوعية وحذر، فتعرض للانتقاد وربما الشتائم والتخوين. المثقف الحقيقي لن يكون بوقا لأحد، ولهذا فهو سيبقى صاحب موقف ثابت في المطالبة بالحقوق المشروعة، واحترام حق الإنسان في العيش الكريم والعدالة، ولكنه قبل هذا سيبقى الصخرة القوية التي تتكسر أمامها أية دعوات للعنف أو سفك الدماء تحت أي شعار، فهو ضمير الأمة الذي يحرص على وحدتها. وفي الحقيقة أن ما يطلق عليه "الربيع العربي" كشف لنا عن نماذج جيدة بقيت على خطها السلمي، وفي الوقت نفسه أظهر الوجه القبيح للكثيرين الذين كانوا يوما ما "أعلاما" تتهافت عليها وسائل الإعلام، حيث لم يتورع هؤلاء عن التصريح ب"دعوات العنف لأنه السبيل الوحيد لتحقيق المطالب" حسب قول أحدهم. وفي الحالة السعودية يمكن هنا الإشادة بما صرح به بعض المثقفين والعلماء في مدينة القطيف بعد الأحداث الأخيرة المؤسفة، حيث كانوا واضحين في الدعوة لنبذ أي وسيلة تؤدي إلى العنف، وحذر بعضهم من الانجرار وراء دعاة القتل والتخريب، وميزة هذه الدعوات أنها أتت من شخصيات ثقافية ودينية مستقلة إلى حد كبير ولها صوت مسموع. والأمل في البقية أن يكون لهم دور فاعل وموقف واضح تجاه أي فعل أو قول يؤدي إلى العنف أو يدعو له.