أغلقت القيادة السورية الباب على إمكانية استمرارها في السلطة عبر الإصلاح وأتت على نفسها بالعد العكسي إلى انتهاء النظام عاجلاً أم آجلاً. الرئيس السوري بشار الأسد يكاد يمتلك فقط مفاتيح كيفية ونوعية النهاية. لربما الرمق الأخير لإنقاذ ماء الوجه متاح أمامه عبر التنحي إنما خيارات «استراتيجية الخروج» للقيادة السورية تقلّصت كثيراً ويكاد يفوت الأوان عليها. فليس هناك سوى نموذج الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الذي ما زال في السلطة وما زالت نافذة الحصانة من المحاسبة شبه متوافرة أمامه إذا نفّذ حقاً وسريعاً التزاماته بموجب «المبادرة الخليجية» التي تكافئه بالحصانة مقابل تنحيه عن السلطة. مكابرة الزعيم الليبي السابق معمر القذافي على فكرة التنحي وما عُرِض عليه من حصانة من المحاسبة لو أسرع إلى تنفيذ «استراتيجية الخروج» أثبتت عدم جدواها عندما لقي القذافي نهاية مروعة لم تخطر على باله. هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يحميه موقتاً من المحاسبة على الفساد والقتل. محاكمة الرئيس المصري حسني مبارك وأولاده مستمرة ونتائجها بالتأكيد ليست التبرئة. لربما في بال الرئيس السوري الرهان على عدم توافر الخيارات العسكرية للمعارضة الداخلية وعدم استعداد دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) لتكرار تجربة ليبيا في سورية. لعله يراهن على الوهن في العزم والتصميم مع مرور الوقت بما ينفّس الضغوط الإقليمية والدولية والداخلية. وفي الحالتين هذا الرهان خاطئ ومميت. فلقد اتُخِذ قرار التضييق الاقتصادي الخانق للنظام السوري على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولن يتمكن النظام من البقاء طويلاً حتى ولو قررت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تكريس جزء من موازنتها لحمايته ولو أتت مفاجأة روسية بتمويله تعويضاً عما يخسره نتيجة استراتيجية الخنق الاقتصادي المتمثل في عقوبات اقتصادية. كذلك، تم اتخاذ قرار تطويق النظام السوري بعزلة إقليمية ودولية لا عودة عنها مهما تخيّل أركان الحكم في دمشق أن هذه عزلة عابرة سيتم التغلب عليها أو التراجع عنها مع مرور الوقت. فقرار جامعة الدول العربية تعليق مشاركة سورية في الجامعة وإنذار الحكومة السورية بإجراءات عقوبات اقتصادية ما لم توقع بروتوكول حماية المدنيين بمراقبة عربية عملية هو قرار بالغ الأهمية لأنه ليس عائماً بلا أفق زمني وليس توعداً بمجرد بيع الكلام. دخول جامعة الدول العربية بهذا الحزم في الملف السوري مهم إقليمياً ودولياً. فهو يأتي ليتقدم على التدخل الخارجي ويجعل من الوضع السوري مسألة عربية وليس غربية. وهو يقطع الطريق على مغالاة روسيا وإخوتها في الممانعة ومنع مجلس الأمن الدولي من التعاطي مع الملف السوري وهو يضع المسؤولية العربية في الصف الواحد مع المسؤولية التركية ويحول دون «امتلاك» تركيا وإيران وحدهما مصير سورية. فلقد طرأ تغيير جذري على جامعة الدول العربية بعدما قاومت طويلاً وكثيراً تناول المسألة السورية إلى أن وجدت نفسها مضطرة لخلع القفازات البيضاء مع الحكومة السورية. فماذا الآن؟ لم يبرز في صفوف السلك الديبلوماسي السوري ما برز في صفوف السلك الديبلوماسي الليبي عندما أقدم الديبلوماسيون على الانشقاق عن النظام أفراداً وجماعات. نائب المندوب الدائم في البعثة الليبية للأمم المتحدة، السفير إبراهيم دباشي، كان أول من تحدث عن فرض «حظر الطيران» ونظّم أعضاء البعثة في انشقاق جماعي أدى في نهاية المطاف إلى سابقة في مجلس الأمن عبر القرارين 1970 و1973. البعثة السورية لدى الأممالمتحدة تبدو متماسكة، حتى الآن، بقيادة سفيرها بشار الجعفري الذي يلقن الدروس عن الإمبريالية وينكر ما يحدث على الساحة السورية من قمع السلطات الأمنية بما أدى إلى مقتل أكثر من 3500 شخص. ربما تكون الانشقاقات التي حدثت في السلك العسكري أهم من تلك التي لم تحدث في السلك الديبلوماسي. وربما تأتي انشقاقات في الجيش من داخل الطائفة العلوية لتضع الطائفة قبل العائلة بما يضمن انتقالاً أقل دموية من نظام الأسد إلى حكم شمولي غير احتكاري. فمثل هذا السيناريو مرحب به من كثير من السوريين الذين لا يريدون للسلفيين أو للعلويين أو ل «الإخوان المسلمين» أو للعلمانيين احتكار السلطة. المخاوف من «الإخوان المسلمين» في سورية ليست بلا أساس سيما وما يحدث في ميادين الثورات العربية الممتدة من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى اليمن ينذر بهيمنة الإسلاميين، «المعتدلين» منهم بالذات، بتشجيع ملفت من الغربيين وبعض العرب وربما الأتراك أيضاً. فصعود الإسلاميين إلى السلطة يلقى ترحيباً قريباً يمتد من واشنطن إلى لندن وباريس بذريعة أصول اللعبة الديموقراطية. واقع الأمر أن هناك ما يشغل البال وراء اندفاع الغرب لدعم «الإسلام المعتدل» الذي دخل السلطة في تونس وليبيا وكذلك في مصر بحروب على المرأة العربية التي يزعم الغرب انه يدعمها، لكنه يغض النظر عن تحييدها واستهدافها، وهذا مجرد جانب واحد واضح من إفرازات تسلق الإسلاميين السلطة بمعونة الغرب على حساب الحداثيين العرب بعامة والمرأة العربية بخاصة. والأمر في غاية الخطورة يجب النهوض ضده مهما كان التشوّق لازدهار الربيع العربي ناصعاً. ومع هذا، وحتى إن كانت إدارة باراك أوباما والحكومات الأوروبية تتهيأ لتقبل حكم «الإسلام المعتدل» في سورية، لم يعد لدى نظام بشار الأسد من أرضية دعم داخل سورية تجعله قادراً على البقاء في السلطة. فلقد عبر الخطوط الحمر عندما قرر حسم الأمر أمنياً ميدانياً وقتل شعبه. ولا عودة اليوم عن قرار الاستغناء عنه لدى الأكثرية الشعبية في سورية. فهو ليس المنقذ من الأسوأ، بل انه بات «الشر» الذي يعرفونه ويريدون التخلص منه حتى وإن كان الآتي أسوأ. وهذا مدهش في إيضاح مدى السوء الذي وصل إليه النظام السوري لدى الأكثرية الشعبية. فلقد طوّق نفسه بالكراهية ليس عبر جيرته التي تدخل فيها بعنجهية فحسب، وإنما بالذات طوّق نفسه داخلياً بلا عودة. مسؤولية المعارضة السورية مضاعفة قياساً بمسؤولية المعارضة الليبية أو التونسية أو المصرية أو اليمنية. وقوعها في فخ «الإسلام المعتدل» لتكون العربة التي تأتي ب «الإخوان المسلمين» إلى السلطة سيكلفها غالياً وسيكلف سورية أغلى. واجب المعارضة السورية المنقسمة ألا تعمي عيونها بذريعة التخلص من نظام الأسد بأي ثمن ومهما كان، وإنما واجبها الأساسي ألا تضلل أو تقع فريسة التضليل وتورط سورية. فالنظام في دمشق بدأ العد العكسي إلى الانتهاء، لكن مصير سورية بدأ العد العكسي إلى مصير مجهول ما لم تستدرك المعارضة حالاً وتوقف الاستقطاب والشرذمة. نظام بشار الأسد سيرحل في حال وافق على إصلاح فات عليه الأوان، أو وافق على إصلاح جذري ثوري يسقط حكم «البعث» الاحتكاري، أو كابر وثابر في مسيرة «علي وعلى أعدائي»، أو تنحى وغادر إلى دولة عربية قد تستضيفه أو إلى روسيا التي يفترض أن ترحب به. أما سورية، فإنها في هشاشة. وهذا ما يجدر بكل من المعارضة السورية وجامعة الدول العربية وتركيا والدول الغربيةوروسيا وأخواتها التفكير به. إيران لديها مشروعها المختلف وهي تنظر إلى سورية والعراق ولبنان كملحق لها، فلا أمل بأن تفكر بمصير سورية العربي. القاسم المشترك بينها وبين الغرب هو التفكير بسورية من المنطلق الإسلامي والنزاع الطائفي الإقليمي ليس فقط بين السنّة والشيعة وإنما بين ما يسمى الإسلام المتطرف والإسلام المعتدل. جامعة الدول العربية تتصرف بمسؤولية جديدة من نوعها يمكن تقنينها إلى حد ما تحت عنوان «المسؤولية الجماعية لحماية» المدنيين من أنظمة تفتك بهم. انه دور جديد وضروري والأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي يستحق الشكر لأنه عبر من بداية سيئة في الملف السوري إلى مرتبة رائدة لمصلحة الشعوب العربية وليس على حسابها باسم مؤازرة الأنظمة العربية. وهذه نقلة نوعية، أتت في عهد نبيل العربي. العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أثبت الشجاعة لكونه أول قائد عربي يتحدث بلغة ضرورة تنحي بشار الأسد من أجل شعبه ووطنه. مصر وتونس الثورة خيّبتا الأمل لأنهما في تردد يعمّق الرأي القائل بأن ما حدث هناك هو انقلاب وليس ثورة أو يقظة أو ربيعاً. دول مجلس التعاون الخليجي تلعب دوراً قيادياً ورائداً بالذات في ليبيا واليمن وسورية، وخصوصاً عبر دور مميز لرئيس وزراء قطر ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم. إنما هناك تساؤلات ومآخذ واتهامات لأدوار مريبة بالذات لجهة الشراكة مع الغرب في تنمية «الإسلام المعتدل» الذي بات عنوان صعود «الإخوان المسلمين» وأمثالهم إلى السلطة. واجب جامعة الدول العربية أن تكون يقظة إلى هذه الأمور المهمة سيما وأنها الجامعة للعرب وليس للإسلام، معتدلاً كان أو متطرفاً. واجب الجامعة العربية أن تعنى بما يحدث في إطار حقوق الحداثيين وحقوق المرأة وحقوق الإنسان في ميادين ما بعد التغيير كما في ميادين ما قبل التغيير. سورية فائقة الأهمية في هذا الصدد، ومسؤولية الجامعة العربية مضاعفة سيما إذا كانت إدارة باراك أوباما أو حكومة نيكولا ساركوزي أو ديفيد كاميرون عاكفة على صنع «الإسلام المعتدل» ومحو الاعتدال العربي في آن. ففي الأمر ريبة. وعلى صفوف الاعتدال العربي أن تستيقظ من ارتمائها في صدمة ما أفرزه الربيع العربي حتى الآن لتأخذ على عاتقها المشاركة في صنع مصيرها. فالأنظمة راحلة، من تونس إلى مصر إلى ليبيا إلى سورية إلى اليمن. والأهم هو المشاركة المبكرة في صنع المصير العربي كي لا يسقط العرب في دوامة الفوضى المنظمة أو الخلاقة أو العشوائية أو تلك التي استهدفت أساساً ترجيح كفة الإسلاميين على كفة العسكريين لتنحية الحداثيين عن المشاركة.