في الحلقة الممتعة مع الشيخ المقرئ عادل الكلباني، والتي يديرها الأخ الزميل المبدع: عبدالله المديفر في (لقاء الجمعة) على قناتي الرسالة وروتانا خليجية، طرح الشيخ عادل آراء جميلة ومفيدة كعادته -حفظه الله- لكنه كذلك طرح قضيتين خطيرتين تستحقان المراجعة، بل وإعادة تشكيل فهم المسائل الشرعية، وإسقاطها على وقائع البشر! وأولى هاتين القضيتين: (الأخذ من المال العام) إذا أعطى السلطان بأمره لفرد في الدولة، مستدلاً بأخذ الإمام مالك من مال السلطان. وكان سبب هذا الطرح ذكر قصة عن أخذ أحد الدعاة مبلغاً كبيراً من جهة عليا في الدولة، وهي قصة نفاها الداعية نفسه. ورأى الشيخ عادل أن ولي الأمر لو أعطى هذا الداعية مبلغاً ولو كبيراً، وفي القصة (5 مليون ريال)، فإن الأصل أخذها مالم تستشرف نفسه -حسب تعبير الشيخ عادل-، مستدلاً بقصة مالك! والحقيقة أن الإمام مالك -رحمه الله- لم يأخذ قرشاً واحداً من المال العام، لا من الوالي، ولا ممن ينوب عنه لنفسه، بل أخذ المال العام ليوزعه على الفقراء والمحتاجين، فهو من أأمن الأمة على ذلك، ولذا فهو لم يأخذه أعطية، ولم تستشرف نفسه له. وعليه فإن الاستدلال في غير موضعه، ولا يصح الخبر عن مالك، ولا يتوقع ذلك منه شرعاً. فالمال العام لا يجوز للوالي ولا للحاكم أن يتصرف فيه، ليعطي فرداً بالملايين، إنما يعطي الولي أو الحاكم لفرد محدد، لمصلحة مقررة شرعاً. أما الهبات والأعطيات المفتوحة للعلاقة والمحبة فهو تصرف لا يجوز في المال العام. وأما أخذ الداعية لها دون أن تستشرف نفسه لذلك -حسب تعبير الشيخ عادل- فهذا ليس في المال العام، إنما في أعطيات من يملك المال لنفسه، ورغب أن يعطي داعية -كمثال- من هذا المال. فلا القصة الأولى عن مالك في السياق، ولا شاهد الحديث في السياق كذلك! ولتجلية الأمر أكثر، ولخطورة هذه المسألة أضع بين يدي شيخنا الجليل عادل هذه الشواهد والأقوال الموضحة: 1- أخذ بعض الفقهاء من المال العام من يد بعض الولاة، لأنهم كانوا فقراء، وأخذوا ما يرون أنهم يستحقونه من المال العام بطريق مشروع، كما فعل الإمام أشهب المالكي، وسواه. 2- أعطى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عبيدالله بن عبدالله الثقفي مائة ألف درهم من بيت مال المسلمين، وعلَّلَ ذلك عند سؤاله بأن ليلة من ليالي عبيدالله بن عبدالله لتعود على بيت مال المسلمين بأكثر مما أخذ، أي أنه كان يعمل كمستشار وخبير، والمال الذي يأخذه تعود قيمته بالأفكار والرؤى والخطط، وبالمال الوفير لبيت مال المسلمين. والخلاصة: أنه لا يجوز للحاكم إعطاء (قرش) واحد، لأي فرد من أفراد الرعية إلا بحق، فالكل سواسية بمن فيهم الوالي أو الحاكم. وفي آثار الصحابة التي ينبغي ألا تخفى على القراء والدعاء ما يكفي، ومن ذلك: 1- أن الصحابة وقفوا على مال إمام المسلمين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وكيف أنهم وجدوا أن درعه كانت مرهونة لرجل من اليهود!. 2- تحصيص الصحابة رضي الله عنهم راتب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو الخليفة ، حيث لم يتجاوز راتبه مقدار راتب رجلٍ من عامة المسلمين! 3- حال عمر بن الخطاب ذي الثوبين المرقعين، وسؤال الصحابة له وهو على منبر الجمعة عن ثوب جديد لبسه، حتى يبين مصدره، وإثبات ذلك أمام الملأ! 4- إعادة عمر بن الخطاب مال ابنه الذي كان والياً في إحدى ولايات الشام خشية أن يكون قد استفاد من جمعه فترة ولايته! 5- إعادة (سعيد بن عامر الجمحي) والي حمص في عهد عمر بن الخطاب، المال الذي أتاه من الدينة لما بلغ عمر أن (سعيد الجمحي) - واليه في حمص- أفقر المسلمين. أو يجوز بعد عرض مثل هذه النصوص الثابتة والمستفيضة، أن يفتي عاقل فضلاً عن عالم أو باحث شرعي، بالخوض-زوراً وتأويلاً- في مال المسلمين؟!. وأما القضية الأخرى: فهي الاستدلال بحديث: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه". عند عرض ما يجري لإخواننا المسلمين في سوريا، وأن على الحاكم أن يقتل لو رأى المصلحة استدلالاً بهذا الحديث، لضبط النظام. ولكني وددت أن يبين الشيخ أن في مثل حالة سوريا التي ذكر النقاش حولها ابتداءً، أن يقول: أنه قد يكون العزل من الجماعة للحاكم الظالم، وأن من فرق جماعة المسلمين قد يكون (الحاكم) الذي استبد عقوداً من الزمان، وكان عليه أن يحكم على حزب بعثي كافر بأقواله وتصرفاته، فالناس حينئذ هم الجماعة الذي شقَّ عصاهم الحاكم الظالم، وحزبه المجرم! كما وددت لو ذكر فضيلته شاهداً في التاريخ، عندما أمر معاوية رضي الله عنه بقتل (حجر بن عدي) متأولاً هذا الحديث الذي ذكره الشيخ الكلباني، وكيف اعترضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على تفسيره هذا، وترخصه في قتل مسلم واحد، حتى اعتذر لها، ورجع وأسف عن فعله كما ذكر الذهبي. ولكنه وللأسف، يبدو أن حق المسلمين ومالهم ودماءهم صارت في مهب ريح بعض الفقهاء والقراء!!