كان ذلك العجوز محط احترام أهل القرية، يثقون بآرائه ويستشيرونه في همومهم ومشاكلهم، وقد جاءه ذات يوم فلاح مهموم سائلا له بصوت حزين "ماذا أفعل يا حكيم القرية، لقد هلك ثوري وليس لدي حيوان يساعدني على حرث أرضي، أليست تلك مصيبة كبيرة؟؟" فأجابه العجوز بهدوء: "ربما كان ذلك صحيحا وربما لم يكن". عاد الفلاح لمزرعته وهو يتفكر متشككا في صلاحية حكمة العجوز، إلا أنه في اليوم ذاته شاهد حصانا صغيرا يتجول قرب مزرعته ففكر في اصطياده واستخدامه في الحرث بدلا من ذلك الثور الهالك، فوجد فرقا كبيرا بين الدابتين؛ مما أسعده سعادة بالغة جعلته يسارع إلى العجوز مقدما اعتذاره عن تشككه السابق في حكمة رؤيته ومعترفا له: "لقد كنت محقا أيها الحكيم، إن فقداني للثور لم يكن مصيبة كما اعتقدت، بل على العكس فقد كان نعمة لم أستطع استيعابها مثلك، فلولا فقده لما خطر لي استخدام ذلك الحصان في الحرث، ولا بد أنك توافقني على أن ذلك من أفضل ما حصل لي" فأجابه الحكيم بنفس الهدوء: "ربما كان ذلك صحيحا وربما لم يكن"، فشعر الفلاح بأن العجوز قد بالغ في اعتداده بحكمة آرائه لدرجة الغرور هذه المرة. بعد مرور أيام سقط ابنه من فوق صهوة ذلك الحصان فكسرت ساقه ولم يعد بإمكانه الحركة أو مساعدة والده في موسم الحصاد، فذهب الأب باكيا مستفسرا من العجوز: "كيف أمكنك أن تعرف بأن اصطيادي للحصان لم يكن خيرا، لقد كان رأيك صائبا مرة أخرى فلقد كسرت ساق ابني، وهو ساعدي الأيمن في أعمالي ولن يتمكن من مساعدتي في الحصاد هذا العام؛ مما سيترتب عليه أعباء كبيرة، فعلا لقد كان قدوم ذلك الحصان نحسا على حياتي، ولا بد أننا نتفق في الرأي هذه المرة؟" فأجابه الحكيم بهدوء: "ربما كان ذلك صحيحا وربما لم يكن"، فاستشاط الفلاح من لامبالاته وعاد إلى قريته غاضبا ثائرا ليفاجأ بالجيش يقوم بحملة تعبئة لكل أبناء القرية من الرجال القادرين على المشاركة في الحرب التي اندلعت منذ أيام، فاضطرب قلبه بشدة خوفا على رحيل ابنه لكن سعادته لم تقدر بثمن حين علم بأنهم لن يصطحبوه معهم؛ لأن رجله المكسورة لا تجعله قادرا على القيام بالتدريبات العسكرية العنيفة!! تواجهنا يوميا عشرات الأحداث والمواقف، فكيف نبني أحكامنا عليها ونقيّم خيرها من شرها، وكيف نتجنب مصيدة استباق الزمن في الحكم على الأوضاع قبل رؤية نتائجها البعيدة؟ إننا نميل إلى التفكير في نتائج أفعالنا بطريقة متسلسلة خطية، فنفكر في الفعل ثم النتائج المحتملة ثم نتائج تلك النتائج، لكننا لا نستطيع النظر للأمام لأبعد من بضع حركات في لعبة الشطرنج، ونغفل عن أن هناك تغذية راجعة في الحدث لا تظهر إلا بعد فترة من الوقت، وربما حين تكتمل دائرتها بعد مدة فستعاكس خطتنا المحدودة الرؤية، وسنكتشف حينها أن العالم أكثر تعقيدا من أي جهاز كومبيوتر، وأن عقلنا الواعي لا يرى كل شيء ولا يعرف كل شيء حتى مع وجود تلك المقادير الضخمة من القدرات الحسابية والأقمار الصناعية، وأنه لن تكون هناك أبدا نقطة نعرف عندها كل شيء عن أي شيء. حينها سنتفهم بعمق ما معنى أن يكون في قاموس حياتنا كلمة "استخارة"، وستبرز لنا بقوة معنى كلمة الإلهام المبثوثة بكثرة في مناجاتنا اليومية: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي، اللهم أرني الحق حقا وألهمني اتباعه وأرني الباطل باطلا وألهمني اجتنابه.