الاختلاف الفقهي في الآراء بين العلماء من الأمور التي نشأت عليها الأمة الإسلامية، وتعايشت معها، وأصبحت في بعض الأحيان مصدر قوة وتنوع، وليس ضعفا وافتراقا، والسبب في ذلك يعود إلى كيفية التعامل مع هذه الآراء ومعرفة حدود تداولها، فالاختلاف في إرضاع الكبير والجمع بين الصلاتين والنُشرة وفي ربا النسيئة والتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وارد بين علماء أهل السنة، بل بين علماء المذهب الواحد من المذاهب الأربعة، وهي ثلاثة أبواب مختلفة سقتها كأمثلة تتناول المعاملات والاعتقاد والعبادات. بين كل فترة وأخرى نجد أن أحد الدعاة أو العلماء انفرد بقول من الأقوال المعتبرة القديمة التي هُجرت لاستقرار العمل على غيرها وليس لضعفها! ونظراً لأننا اعتدنا على الرأي الواحد نُشنع ونستنكر على الرأي الآخر، سواء كان متشددا أو متسامحاً، لكن يبدو لي أن ما يستثير حفيظة العلماء هو أن هذه المسائل من المفترض أن يتم تداولها ابتداء في مجالس العلم وحلق الذكر، حتى يتم استقصاؤها ونقاشها، ومن ثم يترك لكل مجتهد رأيه، اليوم نرى مع الأسف خاصة من بعض الدعاة أنهم بمجرد أن تقع عين أحدهم على قول غريب لم يسمع به إلا هذه المرة يسارع إلى تبنيه ونشره، والحضور الإعلامي على صداه، بدون تتبع ولا تمحيص، ناهيك عن قضايا النوازل التي نجد عجزا في إيجاد حلول لها. ولعل مما لا شك فيه أن الفتوى أحد المؤشرات الأساسية في التغيرات والإشكالات الطارئة على المجتمعات المسلمة، ومن خلالها يمكن قياس الرأي العام تجاه المستجدات الحضارية من الناحية الشرعية. ولكون الفتوى محركاً أساسياً لدى المسلمين في السلم والحرب، والحياة والموت، والأسرة والميراث، فقد كانت تحظى بنوع من التجديد المستمر نتيجة التغيرات الطارئة على المجتمعات، وكانت هناك مجالس الفتوى التي يجلس فيها المستفتي ليشرح واقعها على المفتي، الذي يقدر هذه الواقعة بحالها وزمانها ومكانها، ومن ثم يصدر الفتوى المناسبة، أما ما يقع اليوم من برامج الفتيا العامة على الفضائيات التي يُستفتى فيها بحالات فردية فلا ينبغي أن تُشهر على العامة، وإن كانت الفتوى فيها بالجواز، لما تحدثه من اضطراب في فهم النصوص التي يظن العامي البسيط أنها تعارضه. ومن هذا المنطلق كان لدى المسلمين عدة مذاهب بقي منها المذاهب الأربعة الشهيرة، الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وبقيت هذه المذاهب الأربعة في حياة أصحابها، كانت خاضعة للتغيرات وفق سياقها الزماني والمكاني، ولا أدل من وجود رأيين في بعض المسائل للإمام ذاته. إلا أن ما نراه اليوم لا يمكن تصنيفه في خانة الاجتهاد، وإنما في خانة النبش في الآراء الفقهية والتقليد والعجز عن فقه حالة الناس اليوم، لأنه كان بالإمكان الاستفادة من هذه الآراء وتنزيلها على واقع الحال للخروج برؤية جديدة، وليست استنساخ رأي فقهي من بطون الكتب ونشره بين العامة، لأن الفتوى اليوم طرأت عليها متغيرات كبيرة، لعل من أهمها الانتشار الفضائي والشبكة العنكبوتية التي تعد من أكبر الإشكالات التي تعصف بالفتوى. اليوم تعد المملكة العربية السعودية أكبر مصدر للفتوى في العالم، وذلك من خلال الترسانة الإعلامية الدعوية التي تتربع عليها أولا، ومكانتها في نفوس المسلمين ثانيا، وهذا يجعلنا أمام تحد كبير لمناقشة حال الفتوى، وتفعيل الأوامر الملكية التي احتوت على تنظيم لها، وذلك من خلال تواصل الرئاسة العامة للإفتاء وقيامها بالعديد من المؤتمرات والفعاليات لتعزيز هذه المفاهيم، وليس الاقتصار على المنع الذي لا يدوم طويلا أمام كثرة الطلب، كما شاهدنا في فضائيات رمضان لهذا العام!