في وقت قياسي استطاع ميدان التحرير أن يعيد اختراع مصر من جديد، وأن يخلع عنها ثوباً ظل لسنوات طويلة هو الزي الأوحد لمصر والذي أخفى ملامحها وجوانب كثيرة من صورتها، وأبقى صورة واحدة طمس فيها وجوه ما يقارب ثمانين مليون مصري، لصالح حزمة من الوجوه التي ترسخت سطوتها على مصر في السنوات الأخيرة، والتي بات فيها الرئيس المصري عبارة عن واجهة فقط، وشخصية تلفزيونية تفتتح المشاريع وتبتسم لكاميرات المصورين، بينما ذهبت مصر في أتون حديث عن التوريث وزواج المال والسلطة، وظهرت طبقة من السياسيين التجار تعاملت مع التراب المصري على أنه شركة مقاولات. لم تنتبه الحكومة المصرية إلى ارتفاع مستوى الوعي لدى العامة، ولم تأبه بالمظاهرات الصغيرة التي كانت الملجأ الأخير لكثير من المقهورين، وتقوت تلك الاحتجاجات عبر وسائل اتصال حديثة، تكاثفت مع السنوات الماضية حتى خلقت وعياً سائدا في الشارع بأن النظام القائم مجرد حفنة من الفاسدين والمنتفعين، ذلك الوعي الذي ساد لم يكن له أن يظل مجرد شعور لدى الناس، بل كان مصيره أن يتحول مع الزمن من مجرد شعور إلى حراك على الأرض. لم تكن مصر بحاجة إلا لشرارة لتندلع كل تلك التظاهرات، لتتكامل كل عوامل الثورة الفعلية على المستوى الوجداني العام، وعلى مستوى تحقق وعي شعبي عارم رافض للنظام، وكانت ثورة تونس مجرد تحفيز وإثبات للشارع المصري أن بإمكان الميادين والشوارع أن تحقق الرفض العام للنظام من كونه مجرد شعور ليصبح واقعاً يحقق أهدافه، خاصة أن الشارع وصل إلى مرحلة لم يعد يرى فيها أي أفق لحياته في ظل الحكومة القائمة. وكما يحدث الآن في كثير من الدول التي تشهد ثورات شعبية لم تنتبه الحكومة إلى أن استخدام العنف سوف يحول الغضب الشعبي ليصبح ثأرا وعداء مباشراً، يرى أن سلاحه الوحيد هو الميادين والساحات، وقد أجاد الشارع المصري استخدام هذا السلاح اضطرارا، وكان من الواضح أن النظام طيلة الفترة الماضية قد استهلك كل خطوط العودة بينه وبين الناس. اندلعت الثورة في زمن بات فيه من الواضح أن الرئيس مبارك كان أقل الأطراف تأثيراً في اتخاذ القرارات وفي إدارة الأزمة، وكانت الرؤوس المتنفذة في السلطة والمال هي الأكثر هلعاً مما شهدته الثورة من تطور باتجاه إسقاط النظام، الذي بدا أنه أقل رسوخا مما كان يتوقع رموز النظام ناهيك عن الشارع المصري وعن المجتمع الدولي، مما أوصل المشهد إلى حالة لم يكن لها أن تنفرج إلا بزوال النظام. لكن المصريين لم يفرحوا بالثورة كثيرا، فسرعان ما تحول الشارع إلى شيء أشبه بالديكتاتور الذي بات يرى أن قوته لا حدود لها، وعادت الميادين والساحات لتقدم دورا لا يتوافق مع الطموح المصري والطموح العربي مما حققته الثورة، وركز الشارع اهتمامه على معنويات الثورة وأدبياتها أكثر من نتائجها، وطغت لغة الثأر التي قدمها المنتصر على لغة الخروج من الوضع الحالي باتجاه وضع يدعم استقرار مصر وبناء مستقبلها، خاصة أن المنتصر يمتلك بعد انتصاره أكثر من لغة من بينها لغة الثأر، ولكنها ليست اللغة الأجدى ولا اللغة الأمثل. تحمل كل الثورات معادلة من طرفين: الهدم، والبناء، ومع التغيير الكبير والفريد في نموذج الثورة المصرية عن كثير من الثورات التي شهدها كثير من دول العالم كان من المتوقع أيضاً أن تشهد فترة ما بعد الثورة إدارة واعية تدرك أن الانشغال بالهدم من شأنه أن يؤثر على معنويات البناء، وأن يجعل من الماضي عقدة أكثر من كونه مجرد مرحلة. حين أطاح الإندونيسيون بالدكتاتور السابق سوهارتو لم تتم محاكمته إلا بعد ست سنوات من الثورة، ورغم الغضب والمعارضة التي حصدها ذلك التأجيل إلا أن الشارع لم يستنزف قواه في عملية الهدم، والمطالبة بسرعة المحاكمة، واتجه ليعوض ما فاته من فرص للبناء والعمل في ظل حكومة الديكتاتور. الشارع المصري الذي قدم أفضل نموذج للثورة على مستوى سرعتها ودقة مطالبها بات الآن في خانة المنتصر، لكن نصره الحقيقي نصر من أجل مصر وليس على النظام السابق. والذهاب بعيداً في شعائر الانتصار من شأنه أن يعيد تعريف الثورة بما لا يتفق والطموح المصري في إعادة مصر، وإعادة اكتشاف مكامن قوتها على مختلف المستويات. سوف يجد المجلس العسكري نفسه في ورطة كبرى، ذلك أن محاكمة مبارك ونجليه لن تستمر طويلاً، وسوف تمثل بداية لمسلسل من المحاكمات التي لن تنتهي، والتي قد تتحول معها مصر إلى محكمة كبرى، يكون نتاجها الأبرز هو ارتفاع في حدة الانشقاقات السياسية والشعبية التي ستؤثر على ملامح المستقبل السياسي في مصر.