استيقظت النرويج، تلك الدولة الإسكندنافية الوادعة، على كابوس مرعب، هو الأسوأ في تاريخ البلاد في زمن السلم. بدأ الأمر بانفجارٍ في قلب العاصمة أوسلو، تم بواسطة سيارة مفخخة بالقرب من المباني الحكومية ومقر رئاسة الوزراء، وعلى إثر ذلك توفي سبعة أشخاص، بينهم مسؤولون في الحكومة وأصيب العشرات. وهذا الحدث المروع لم يكن إلا بداية العاصفة، فبعد ذلك بساعات قليلة، تحولت جزيرة جميلة أشبه بالجنة يُقام فيها معسكر صيفي للشباب (14-18عاما) إلى جحيم، إذ قام شاب متطرف بإطلاق النار بشكل مكثف على الضحايا، لتكون محصلة هذا الجنون الرهيب ما يزيد عن خمسة وثمانين ضحية. ردة الفعل الأولى ساعة توارد الأنباء على الوكالات الإعلامية العالمية كانت (اكفش إرهابي مسلم!). لم أستطع إلا أن أتنفس الصعداء عندما شاهدت صورة المشتبه به، رددت بيني وبين نفسي: الحمدلله.. إنه لا يشبهني في شيء! فهذا الأشقر بعينيه الزرقاوين رجل أوروبي شكلا وعرقا ومولدا، ومسيحي دينا، وسياسيا ينتمي لليمين الأوروبي المتطرف، ولا علاقة له بنا من قريب أو بعيد إلا اللهم لجهة كرهه الشديد للإسلام والمسلمين وللمهاجرين، ورغبته في الحفاظ على آرية أوروبا نقية. الغريب أن (أندرس بيرينغ برييفيك) كان يعلن بصراحة في مواقع الإنترنت وصفحته على الفيسبوك وغيرها عن كرهه لنا ولديننا، ووضع دستورا مفصلا (مانفيستو) بعنوان: "إعلان أوروبي للاستقلال" يشرح كيفية صنع الأسلحة لقتلنا، وعن رفضه لمجتمع التعددية الثقافية وتقبل الآخر، وعن صداقته لإسرائيل، ومع ذلك لم يشك فيه أحد، لم يوضع تحت مراقبة من أي نوع، لم تستدعه الشرطة وتحقق معه، لم يتهمه أحد قبلا بالعنصرية والتحريض على الكراهية والقتل، ولم تجذب رائحته أنوف عملاء السي آي إيه الفتاكة على الشبكة، والتي كثيرا ما تسببت في اعتقال الأبرياء من العرب والمسلمين في المطارات الدولية والعواصم الأجنبية بل وحتى في حرم الجامعات مظنة الشبهة فقط دون دليل ملموس إلا ملامح شرق أوسطية ولسان يقول ربي الله. المجتمع النرويجي كما الدولي مصدومان، ليس لوقوع العملية الإرهابية بل لأن وجه المجرم كان يشبه وجه أي شاب نرويجي الأصل والمنشأ والولادة، وهو ما لم يمكن في الحسبان. فأجهزة الإعلام الغربية نجحت في شيطنة الإنسان المسلم، فصار هو والإرهاب وجهين لعملة واحدة، وتم تحجيم كل الأخطار الأخرى المحدقة بالمجتمعات المتحضرة لصالح تضخيم خطره. ففي التقرير الأمني الأخير الذي قُدم للسلطات النرويجية قبل أشهر قليلة فقط من الحادثة، والذي يدرس الأخطار الإرهابية المحتملة، وعلى رأسها طبعا إرهاب الإسلاميين المتطرفين كردة فعل لمشاركة النرويج في عمليات حلف الناتو في ليبيا وأفغانستان، تمت الإشارة إلى اليمين الأوروبي المتطرف بشكل عرضي وبسيط، ليتم وصفه بأنه ذو خطر محدود جدا، ولهذا كان ما حصل صفعة قوية في وجه أجهزة الأمن والمباحث، ليتها توقظ أوروبا بالفعل من سباتها الاختياري وتجاهلها المتعمد لحقائق التاريخ والجغرافيا. القارة العجوز التي تبدو في حالة صدمة من قيام أحد أبنائها بهذا الأمر الفظيع تتناسى تاريخا طويلاً للحركات المسيحية المتطرفة، خاصة حركات الشبيبة في العهدين القريب والبعيد. فمن أشعل الحروب العالمية التي أهلكت القارة القرن الفائت إلا اليمين الأوروبي المتطرف والعنصري والذي يرتدي رداء المسيحية؟ ألم يكن هتلر وصليبه المعقوف ونازيته الدموية إلا أعظم مثال لفكر هذه الأحزاب؟ ليس للتطرف دين ولا لون ولا شكل معين، حقيقة طالما رددناها خلال الخمس عشرة سنة الماضية، منذ أن ظهرت تقليعة ربط الإسلام بالإرهاب، ومن ثم ظهر مصطلح الحرب على الإرهاب وعرابه العم سام، واستخدم هذا السلاح النووي لغزو الدول واسترقاق الشعوب وتعذيب البشر في أنحاء المعمورة، وهاهي أحداث النرويج تأتي لتؤكد صحة هذه المقولة. ومنذ خمسينات القرن الفائت، ألف الكاتب الأمريكي (إيريك هوفر) كتابا قيما بعنوان (المؤمن الصادق) قرر فيه أنه مهما اختلف التطرف في شكله قوميا أو دينيا أو عرقيا فإن جذوره واحدة. فهل ستعاني المسيحية كما عانى الإسلام من عار الإرهاب؟ وهل ستعاني النرويج كما عانت السعودية وإيران ومصر وجل الدول الإسلامية؟ هل سيطالب أحد بمراجعة المناهج المدرسية التي تتلمذ عليها (أندرس بيرينغ برييفيك)؟ أم هل سيطالب أحد بإغلاق الكنيسة التي يرتادها، ويدقق في كشوفات تبرعاتها؟ لقد عانينا كثيرا بوصفنا مسلمين، خلال السنوات الماضية، واتهمنا بالخيانة، وصارت جوازات سفرنا، أو الغطاء الرقيق على رؤوسنا كفيلين بأن يجعلانا موضع شبهة. لذلك أتمنى أن تكون هذه فرصة للعالم ليراجع نفسه بشأن مواقفه من المسلمين، والتوقف عن التضييق عليهم وخاصة أقليات المهجر. ويبدو أن بوادر هذه المراجعة الإيجابية قد بدأت تظهر لدى الشباب على الأقل حول العالم، فعبر الشبكات الاجتماعية عبر الآلآف منهم عن تعاطفهم مع المسلمين وعن غضبهم من توجيه التهمة لهم قبل التثبت. فوسائل الإعلام الشبكية ساهمت في جعل الشباب أكثر وعيا فأخذ هؤلاء يعلنون بصراحة أنهم ضاقوا ذرعا بمشجب المسلمين وأنه حان الوقت للالتفات للأخطار الأخرى المحدقة بالأوطان، وهو أمر تحتاجه أوروبا خاصة بشدة. فالأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة تتكاثر فيها بشكل مرعب بحجة مقاومة الهجرة، وبعضها يصل للسلطة أو يقترب. فهذا الحزب الوطني البريطاني المعروف بالاختصارات الثلاثة (BNP)، يطرح دستورا لا يختلف كثيرا في جوهره عن دستور سفاح النرويج، مع كونه حزبا نظاميا مستقلا ومعترفا به وله ممثلون في البرلمان الأوروبي، رغم أنه يدعو صراحة لطرد المسلمين وكل الملونين من بريطانيا. بل إن هذا المتعصب النرويجي نفسه كان قد انتمى في وقت سابق للحزب التقدمي، وهو حزب نرويجي يمني. في الوقت الذي انشغل الغرب فيه على ما يبدو بمحاولة تشريحنا ليفهم عقليتنا الدموية ورغبتنا العارمة لتدمير حضارته المتفوقة، نسي في خضم ذلك كله أن يفهم نفسه، وأن ينظف بيته قبل أن يطلب من الجيران تنظيف حديقتهم الخلفية، وللأسف أنه كان يجب أن يموت مئة نرويجي بريء ليفق من غفلته. الخوف كل الخوف الآن أن تنتصر بعض الأصوات المتطرفة التي تعمد إلى تبرير ما حصل بأنه نتيجة طبيعية لأسباب مثل تهديد الثقافة المحلية، وإرهاب المسلمين، فإذا كنا قد نظرنا في المرآة طويلاً بعد أحداث سبتمبر، فحري بالأوروبي المسيحي المتحضر أن يفعل الشيء ذاته.. من أجل وطنه والسلام العالمي.