.. مرَّ علينا يومٌ من أهم الأيام الدولية لم ننتبه له، ولم نحتف به، مع أنه كان يوما كنا بحاجة شديدة إليه لمعالجة واحد من أكبر همومنا وهو العنف والاعتداء على الأطفال.. أعرف طبيبة تكاد البسمة أن تختفي من ذاكرتها، والدمعة لا تكاد أن تجف من مآقيها، والشكوى والحزن يتبدى بحركاتها وحديثها حتى صار استحواذا نفسيا يثقل كامل أيامها، إنها طبيبة تضطر للتعامل مع الأطفال الضحايا الذين تُمزَّق لحومهم وكينونتهم بفعل اعتداءٍ لا يرحم يتكرر كما تتكرر مناجلُ الشر على الأعناق. ولا تدري، هل تبكي لحال الأطفال أم لحال الطبيبة ومن مثلها؟! الحقيقة أنك تبكيهم جميعا! نعم، كنت أقول إنه مرّ علينا يومٌ لم نفطن له ولم نعتن به، بينما دولُ العالم جعلته يوما للنظر في مسائل الاعتداء على الأطفال وطرق معالجتها، وأقيمت الندواتُ في أركان المعمورة والمؤتمراتُ وورش العمل وحملات التوعية تحت مظلة الأممالمتحدة.. وبالمنطقة كاملة عندنا لم أسمع، وأرجو أن يكون الخطأ في ثقل سمعي، عن ذكرٍ لهذا اليوم فضلا عن حتى مجرد اجتماع صغير، أو حتى مطوية مصابة بفقر الدم تحاول نشر وعي عما يجري كل يوم، كل لحظة، للأطفال الضعيفي الحيلة. إنها قصصٌ تعصر الضلوع على القلوب، تكتب بدم القلب وشهقات الوجع، وحسرات الروح، وتكسّرات النفس. ولكن.. ليتنا على الأقل نحاول. إنه يوم الإيديكفا ""IDICVA - International Day of Innocent Children Victims of Aggression"" الذي أعلنته الأممالمتحدة لكي يكون يوما سنويا يُعنى به تنبيه العالم بأسره لما يقع على الأطفال في أصقاع الأرض من استغلالٍ واعتداءٍ بدني، وعاطفي، وعقلي، في محاولةٍ لإنقاذ الأطفال وحفظ حقوقهم ورعاية طفولتهم وصيانة صحة وجودهم، وحُدِّدَ الرابعُ من يونيو من كل عام ليكون الإيديكفا. على أن هناك قصة أخرى حول إعلان هذا اليوم. عُقد في اليوم التاسع عشر من شهر أغسطس من العام الميلادي 1982 اجتماعٌ سريعٌ وطارئ لمناقشة حماية حقوق الطفل، أما الدافع المباشر للاجتماع فكان حول الموضوع الملتهب لفلسطين. في ذاك الاجتماع تباركت فلسطينُ على موضوع حقوق الطفل العالمي، فقد عُرضت أمام مسؤولي العالم الفظاعات اللامعقولة التي يتعرض لها الأطفالُ الفلسطينيون، ثم انسحب الموضوع على بقية العالم ليُصْدَم المسؤولون الأمميون بإحصاءاتٍ تجعل شعر الجلد يقف، لأنه في ذلك العام ملايين الأطفال فقدوا حياتهم نتيجة للفقر المدقع، والاستغلال المستشري، والحروب التي تطحن لحوم الأطفال خصوصا في قارة إفريقيا، والعنف الداخلي، والمدرسي، وفي الشوارع والجادات لأن الأطفال ضئيلي الأجساد مسلوبي القوة لا حيلة لهم ولا قوة في الدفاع عن أنفسهم.. إنهم مثل قرابين الأرض وضعوا على مذابح التقرب لشياطين الشرور. تصوروا أن ثلاثة ملايين طفل قتلوا في عشر سنوات بالصراعات القبلية والحدودية وحروب العصابات والمنافع الإجرامية، تصوروا أن منظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عدت عشرين مليون طفل ضائع وهارب في أمريكا اللاتينية وفي جزر الكاريبي، وأن عددا قد يبلغ المليون، ومن الصعب التحديد بالدقة، يموتون كل عام بسبب العنف الداخلي في المنازل وفي المدارس وفي الإصلاحيات وفي الشوارع.. على الأقل. أنا لا أعرف إن كنا نملك إحصاءاتٍ مسجلةً ودقيقة ومبوّبة لحوادث العنف على الأطفال، وهو شيء يدعو للأسف، كي يمكننا من إقامة حملة إيقاظ للأمة لما يجري الآن ونحن نقرأ هذه السطور لأطفالٍ، أشعر أنا، كما قد تشعرون أنتم، أنهم مسؤولية بأعناقنا ولو كان ولاة أمورهم هم من يسومونهم العذابَ الأحمر.. نحن معنيون، بل مسؤولون، بل واجبٌ أؤمن به بقلبي، أن علينا تقع مسؤولية إنقاذهم، تخليصهم من مخالب التعذيب وأشباح الموت التي تتقافز أمامهم في كل لحظة.. اليوم فات الرابعُ من يونيو، ولكن هل فات من ضميرنا أن التعذيب والاعتداء على هذه الأنفس الصغيرة البريئة قائم وبضراوة؟ لا، لا يمكننا أن ننسى متى ما عرفنا وأدركنا. وهي إذن دعوة لكل منا، أكنا أفرادا، أم منظمات، أم جمعيات بأن نكون حراسا على الطفولة، بل هو واجبٌ بضميري أراه سماويا حتميا على الجميع وليس فقط فرض كفاية. ومع أنه يجب أن نعترف بأنه قد تكون هناك أعمال وأنظمة قد سُنت من أجل الأطفال إلا أن هذا لن يكفي إن لم نشعر يقيناً ومسؤولية أن آهة كل طفل إنما هي صرخة في أمننا وسكوننا وفي قاع قلوبنا، وردهات ضمائرنا. .. لأن كل ما أتمناه، أن أرى أطفالاً ضاحكين، وأن أسمع أن تلك الطبيبة أخيرا.. قد ضحكت!